نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
غرائبيات غينيا كوناكري - تكنو بلس, اليوم الخميس 24 أبريل 2025 12:32 صباحاً
لا تزال غينيا كوناكري تكشف عن غرائبياتها كل يوم، ومنها العفو عن الانقلابي السابق النقيب موسى داديس كامارا، الذي وصل أخيراً إلى المغرب لتلقي العلاج.
في خلفية قرار العفو، الذي صدر في آذار/ مارس الماضي، تتكشف ديناميات أعمق من مجرد خطوة قضائية أو سياسية. فالمسألة لم تعد تتعلق برجل متهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية فحسب، بل تتداخل معها حسابات إثنية وتوازنات حساسة تسعى السلطة الانتقالية في غينيا إلى إدارتها بما يخدم بقاءها في مشهد معقّد تتزايد فيه الضغوط الداخلية والإقليمية.
في هذا السياق، لا يمكن تجاهل التزامن اللافت بين الإفراج عن كامارا وعودة محمد توري، نجل الرئيس الأسبق أحمد سيكو توري، من منفاه الطويل، وبدء محاولات النظام الحالي لاستقطابه سياسياً وشعبياً.
توري الابن، الذي لطالما حمل على عاتقه إرث والده الثقيل، أعيد تقديمه في الخطاب الرسمي كأحد وجوه “الوحدة الوطنية”، فيما ينظر إليه قطاع واسع من المالينكيين (كبرى المجموعات الإثنية في البلاد) بوصفه رمزاً تاريخياً مهمّشاً منذ عقود.
تولى كامارا السلطة بعد انقلاب عسكري في كانون الأول/ ديسمبر 2008، وذلك مباشرة بعد إعلان وفاة الرئيس الأسبق الجنرال لانسانا كونتي إثر معاناة طويلة مع المرض.
ارتبط اسم كامارا بأحداث العنف التي أدّت إلى مقتل أكثر من 150 مواطناً في نهاية كانون الأول/ ديسمبر 2009. عُرف بشخصيّته المثيرة للجدل، وبتصرّفاته غير التقليدية، وخطاباته العلنية التي جذبت انتباه الجمهور والإعلام.
أُطلق على ظهوره الإعلامي المتكرر اسم “داديس شو”، حيث كان يستخدم وسائل الإعلام لكشف قضايا الفساد ومخاطبة المسؤولين علناً.
في إحدى المرات، استجوب مسؤولين حكوميين على الهواء مباشرة، متهماً إيّاهم بالفساد وسوء الإدارة، ما أدّى إلى إقالة بعضهم فوراً خلال البث.
هذا النهج غير التقليدي في الحكم أثار استحسان البعض لشفافيته، بينما انتقده آخرون معتبرين إيّاه استعراضاً فجّاً للسلطة.
انتهت فترة حكم كامارا بعد محاولة اغتيال في كانون الأول/ ديسمبر 2009، أُصيب خلالها بجروح خطرة نُقل على أثرها إلى المغرب لتلقي العلاج، قبل أن يُنفى إلى بوركينا فاسو، ثم يعود إلى بلاده في عام 2021. وفي عام 2022، مثل النقيب كامارا أمام القضاء الذي أصدر بحقه حكماً بالسجن لمدة 20 سنة بتهمة ارتكاب “جرائم ضد الإنسانية”، قبل أن يعفو عنه الرئيس الحالي مامادي دومبويا، الذي تولى السلطة هو الآخر إثر انقلاب عسكري على الرئيس الأسبق ألفا كوندي.
تبدو السلطة الانتقالية الحالية بقيادة دومبويا كأنها تقرأ جيداً خريطة القوى الإثنية والسياسية، وتسعى إلى استمالة الكتلة المالينكية، التي طالما شعرت بالإقصاء في ظل التوازنات الجديدة التي فرضها الصعود السياسي لنخب من إثنيات أخرى، وعلى رأسها الفولاني، التي تُعدّ المجموعة الأكثر حضوراً في المعارضة المدنية وفي صفوف النخب الاقتصادية والتعليمية.
ولئن كان الإفراج عن داديس كامارا، الذي ينتمي هو الآخر إلى إثنية قريبة من المالينكي، غير معزول عن هذا السياق، فإنه يأتي كجزء من استراتيجية لتمتين العلاقة مع هذه الكتلة، وتقديم “بوادر تصالح” معها، خصوصاً أن النقيب كامارا لا يزال يحتفظ بشعبية معتبرة في بعض مناطق غينيا، رغم التهم الثقيلة التي أدين بها.
ويبدو أن السلطات تحاول الاستفادة من عودة نجل سيكو توري، وتاريخ والده، ومن مكانة داديس كامارا في الذاكرة الشعبية المالينكية، لبناء جبهة داخلية متماسكة تدعم المجلس العسكري في مواجهة ما تعتبره “ضغوط الفولاني” في الساحة السياسية.
يشكّل الفولاني واحدة من أكبر المجموعات الإثنية في البلاد، ويُنظر إليهم تقليدياً على أنهم أكثر قرباً من مراكز التعليم، والتجارة، والإعلام، وظلوا على الدوام في مرمى الاتهامات الضمنية بالهيمنة أو “الطموح الزائد”، وهو ما غذّى توترات مزمنة مع بعض الكتل الأخرى.
لقد حاولت السلطة الانتقالية أكثر من مرة الحد من نفوذهم السياسي، ومن هنا يحمل العفو عن كامارا وعودة نجل سيكو توري رسالة واضحة مفادها إعادة تشكيل التحالفات الإثنية ضمن توازن جديد يضع المالينكي وبعض الأقليات في صفّ السلطة.
هذه القراءة ليست مبالغاً فيها في ظل تحولات تشهدها منطقة غرب أفريقيا، حيث تتجه الأنظمة العسكرية في مالي، وبوركينا فاسو، وغينيا نحو ما يشبه إعادة تعريف الشرعية السياسية، عبر التحالف مع قوى اجتماعية تقليدية أو مهمّشة، والتلويح بخطاب سيادي يعارض “النفوذ الغربي”، وفي الوقت نفسه يعيد فرز الداخل الإثني والجهوي بما يضمن البقاء.
ثمة سؤالان يُطرحان بشدّة: إلى أيّ مدى يمكن لهذه التوازنات السريعة والمرتكزة على التحالفات الإثنية أن تُنتج استقراراً حقيقياً؟ وهل يمكن فعلاً الحديث عن مصالحة وطنية إن كانت تقوم على استرضاء مجموعات على حساب أخرى؟
في بلد مثل غينيا، حيث الجراح التاريخية لم تندمل بعد، والذاكرة لا تُمحى بسهولة، فإن أي خطوة سياسية لا تمر عبر العدالة والإنصاف المتكافئ، قد تتحوّل إلى وقود لانفجار آتٍ، بدل أن تكون طريقاً نحو الاستقرار.
0 تعليق