نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
مجزرة الصحافيين في غزة غير مسبوقة في أي من الحروب... اغتيالات متعمدة وشهادات في الصمود - تكنو بلس, اليوم الاثنين 14 أبريل 2025 02:36 مساءً
مع تحوّل الهجوم الإسرائيلي على غزة إلى أكثر النزاعات دمويةً بحق الصحافيين في التاريخ الحديث، يواصل الجيش الإسرائيلي مزاعمه بأنه لا يستهدفهم عمداً. لكن ما يُعلنه الإسرائيليون يتناقض تماماً مع ممارساتهم الإجرامية.
آخر فصول هذا المسلسل الدموي كان الاستهداف المباشر لخيمة صحافيين في محيط مستشفى ناصر في خان يونس، مما أدى إلى استشهاد الصحافيين حلمي الفقعاوي ويوسف الخزندار، إضافةً إلى إصابة كلّ من حسن إصليح، أحمد الآغا، محمد فايق، عبد الله العطار، إيهاب البرديني، ومحمود عوض.
يواصل عدّاد الموت صعوده، بينما يُلاحق القتل والتنكيل والإقامة الجبرية الصحافيين الفلسطينيين، الذين يواجهون الإجرام بالصوت والصورة بأجساد منهكة ودموع لا تجف.
جامعة براون: عدد الصحافيين القتلى في غزة يفوق ما سقط في الحربين العالميتين
تحاول إسرائيل التعتيم على جرائمها. وما نعرفه ونشاهده ليس سوى صورة مصغّرة عن الجرائم الإنسانية التي ترتكبها بحق الغزاويين منذ أكثر من سنة ونصف السنة. قد تبدو الصورة قاتمة وغير واضحة، مع تباين في المواقف وعدم الاعتراف بالحقيقة، في ظلّ الإفلات من العقاب واستمرار الإبادة.
لكن جامعة براون كسرت الصمت بترجمة الأفعال الوحشية إلى أرقام ملموسة، حيث كشف بحث جديد لها عن حجم المأساة التي أصابت القطاع الصحافي منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
وأظهر البحث أن الحرب الإسرائيلية أدّت مقتل عدد من الصحافيين يفوق عدد الذين سقطوا في الحرب الأهلية الأميركية، والحربين العالميتين الأولى والثانية، والحرب الكورية، وحرب فيتنام (بما في ذلك كمبوديا ولاوس)، وحروب يوغوسلافيا في التسعينيات وبداية الألفية، والحرب في أفغانستان بعد 11 أيلول/ سبتمبر، مجتمعين.
ببساطة يمكن القول إنها أسوأ حرب شهدها الصحافيون على الإطلاق.
عدد الصحافيين والعاملين في المجال الإعلامي الذين قُتلوا من جراء الحرب.
"إذا كنت تقرأ هذا، فهذا يعني أنني قُتلت"
في رسالته الأخيرة التي كتبها الصحافي الفلسطيني حسام شبات قبل أن تقتله إسرائيل في غارة قرب بلدة بيت لاهيا في شمالي القطاع، قال "خاطرت بكل شيء لنقل الحقيقة".
انضم شبات، الذي يعمل لصالح قناة الجزيزة في غزة، إلى قافلة الشهداء الصحافيين الذين قتلتهم إسرائيل بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. كان حسام، مثل بقية الصحافيين، يدرك إجرام إسرائيل، فقد كتب في 14 كانون الثاني على صفحته "لم أتصور أنني سأخرج من هذه الحرب على قيد الحياة". لم يكن يعلم أنه لن يبقى معنا طويلاً، وإن إسرائيل ستقتله كما قتلت عشرات الصحافيين قبله.
في كلماته الأخيرة التي نُشرت على صفحاته الخاصة بعد استشهاده، كان يدرك أن الموت قريبٌ منه، إذ استهل رسالته بهذه الكلمات "إذا كنت تقرأ هذا، فهذا يعني أنني قُتلت - على الأرجح مستهدَفاً - على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي".
فعلتها إسرائيل مرة جديدة، وبرّرت فعلتها مدّعيةً أن "صحافي الجزيرة الذي "تمت تصفيته" في غزة -في إشارة إلى شبات- كان "قناصاً إرهابياً، يقاتل في صفوف حماس".
تتصاعد التهديدات ضد الصحافيين في مناطق النزاع على مستوى العالم. وفي تقريرها السنوي الذي أصدرته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو)، بمناسبة اليوم الدولي لإنهاء الإفلات من العقاب في الجرائم المرتكبة ضد الصحافيين، سجّلت المنظمة ارتفاعاً ملحوظاً في أعداد الصحافيين الذين فقدوا حياتهم أثناء تأدية واجبهم الإعلامي في السنوات الأخيرة.
وأظهرت الإحصائيات أنه يتم قتل صحافي واحد كل أربعة أيام على مستوى العالم خلال عام 2023. ونتيجة لهذه الأرقام المقلقة، شدّد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس على أن "عدد الصحافيين الذين قتلوا في غزة وصل إلى مستوى غير مسبوق".
من جهتها، وثقت لجنة حماية الصحافيين (CPJ) مقتل ما لا يقلّ عن 103 صحافيين وعاملين في المجال الإعلامي الفلسطيني خلال الحرب في غزة، في حين تشير مصادر أخرى إلى أن العدد قد يكون أعلى من ذلك.
وفقاً لورقة البحث التي نشرتها جامعة براون، وجدت الحكومات الوطنية والجماعات الإرهابية، من إسرائيل ونظام الأسد في سوريا والولايات المتحدة، إلى تنظيم "الدولة الإسلامية"، منذ مطلع الألفية، طرقاً متعددة لتقييد تغطية النزاعات، سواء عبر سياسات قمعية أو هجمات مسلحة مباشرة. جميعها تورطت في قتل الصحافيين، وساهمت في ترسيخ ثقافة الإفلات من العقاب، مما حوّل مناطق النزاع مثل سوريا وغزة "مقابر للأخبار".
من جهتها، لا تٌخفي اليونيسكو، في تصريحاتها، هذا المناخ السائد (القتل والتهديد واستهداف مكان بعض المحطات ووسائل الإعلام والتوقيف الجبري...)، الذي يؤدّي إلى ظهور ما تُسمّيه "بقع الصمت" في مناطق النزاعات، مما يعوق الوصول إلى المعلومات ونقلها إلى العالم.
مقتل الصحافية سلام ميمة مع زوجها وأولادها
في تشرين الأول 2023، كانت عائلة ميمة على موعد مع الإجرام الإسرائيلي الوحشي. شهد مخيم جباليا في شمال شرقي غزة فصلًا جديدًا من الموت والغدر، عندما قصفت إسرائيل، عند الساعة الثانية فجرًا، منزل الصحافية سلام ميمة، مما أدّى إلى استشهادها مع زوجها وأطفالها الثلاثة.
تستعيد شقيقتها حنين المأساة التي ما زالت تخيّم على العائلة المفجوعة. تعترف في حديثها لـ"النهار" بأن "خبر استشهادها كان صدمة كبيرة لم نستوعبها بعد، ولا أتمنى لأحد أن يعيش هذا الوجع الذي نشعر به. عندما تلقينا الخبر صباحاً، لم نكن مهيّئين لسماعه، ولم نستطع تقبّله. كان وقع وفاتها علينا مفجعاً وقاسياً، خصوصاً أن سلام وعائلتها كانوا معنا طوال الوقت".

الصحافية سلام ميمة وزوجها وعائلتها قبل استشهادهم.
ولا تُخفي حنين أنه كلما استشهد صحافيّ أو صحافية فلسطينية في غزة، يعود الألم نفسه، كأن الجرح ينفتح من جديد. "الموضوع صعب جداً ويصعب تحمُله"، على قولها.
تُدرك حنين أن ما ترتكبه إسرائيل بحق الصحافيين في غزة ليس مجرّد استهداف عشوائي، بل سياسة ممنهجة لإسكات الحقيقة. وتؤكّد في حديثها أن "إسرائيل تتعمد قتل كلّ الشاهدين على المجازر والجرائم الوحشية، والتخلّص من الذين يمثلون مرآة غزة، أولئك الذين يعكسون للعالم الفظائع التي يرتكبها الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني"، وهذا ما يجعلها تطالب مراراً بإجراء "التحقيق الفوري في جرائم الاحتلال الإسرائيلي بحق الصحافيين الفلسطينين وعدم السكوت عنها ومحاسبة الجناة".

الصحافية سلام ميمة خلال تغطيتها الحرب في غزة.
وفقًا لتقرير اليونيسكو، فإن نحو 85% من الجرائم المرتكبة ضد الصحافيين تبقى دون محاسبة، مما يزيد من التحديات التي تواجه حرية التعبير وسلامة الإعلاميين حول العالم. ومن المعروف أن الإفلات من العقاب يكرّس استمرار الجرائم ضد الإنسانية، وهو النهج الذي تعتمده إسرائيل في حربها على غزة، في مشهد بات واضحاً للعيان.
تخوين واتهامات إسرائيلية مفبركة
تعرّض الصحافي عبد القادر الصباح لما يُشبه الاستهداف المباشر. لكن بأسلوب ممنهج يعتمد على سياسة التخوين والتشهير للنيل منه، لم يواجه رصاصة مباشرة أو مسيرة عسكرية، بل استخدمت القوات الإسرائيلية أسلوباً مختلفاً، إذ نشرت تقريراً يتهمه بالعمل لصالح جهات معيّنة.

الصحافي عبد القادر الصباح خلال احدى رسائله الصحافية.
وفي حديثه لـ"النهار"، يؤكد عبد القادر أنه "رغم أن هذه الاتهامات كانت كيدية ومفبركة، فإن بعض الجهات والقنوات العربية التي كنتُ أعمل معها قررت فصلي من عملي. كان ذلك بمثابة استهدافٍ مباشر لي، بخاصة أنني كنتُ من الصحافيين القلائل (لا يتعدّى عددهم العشرة) الذين نقلوا حقيقة ما يجري في شمالي قطاع غزة في عزّ الحرب".
لقد نجحت إسرائيل في استمالة بعض القنوات الإعلامية إلى صفّها، لكنها فشلت في كسر عزيمة الصحافيين الفلسطينيين وإرادتهم الصلبة. لم يكن الفصل التعسفي الضربة الوحيدة التي تعرّض لها الصحافي عبد القادر الصباح، بل كان هدفاً لاستهدافات عسكرية مباشرة أكثر من مرة، حين كاد يُقتل في مناسبات عدّة أثناء تأدية واجبه الصحافي.
ويروي عبد القادر الصباح "كان آخر استهداف تعرّضت له قبل أيام، خلال عودتنا من تغطية أحداث منطقة الشجاعية، حيث تمّ قصف المنزل المجاور لنا بصاروخ من طائرة F-16. ولحسن الحظ، كتب الله لنا النجاة".
نائب نقيب الصحافيين الفلسطينيين: مستوى غير مسبوق من الجرائم
يتحدّث نائب نقيب الصحافيين الفلسطينيين عمر نزال، في حديثه إلى "النهار"، عن مستوى غير مسبوق من الجرائم التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحق الصحافيين الفلسطينيين منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر وحتى اليوم، مما يجعل عملهم محفوفاً بالمخاطر، ويدفعهم إلى تفقّد بعضهم يومياً للاطمئنان إلى أنهم ما زالوا على قيد الحياة.
تستخدم إسرائيل أساليب متعدّدة في استهداف الطواقم الصحافية. لكن ما يلفت الانتباه، على ما يوضح نزال، هو أن "أغلب الاستهدافات التي طالت الصحافيين وعائلاتهم نُفّذت عبر القصف الجويّ، سواء بطائرات الـF-16، أو المسيّرات أو حتى مروحيات الأباتشي. والأهمّ من ذلك أن هذه الهجمات لم تكن عشوائية، بل كانت مقصودة ومُنفّذة بدقة، مما يؤكّد أنها عمليات اغتيال منظّمة، وقتل متعمّد مع سبق الإصرار والترصد".
ويشير نزال إلى أن إسرائيل تبرّر هذه الجرائم باتهامات جاهزة، في أغلب الأحيان، وتزعم فيها ارتباط الصحافيين بحركة حماس، أو تعاونهم مع مجموعات مسلّحة، وهي ذرائع واهية تهدف إلى شرعنة استهداف الإعلاميين وطمس الحقيقة.
"لا عودة إلى الوراء ولا استسلام"
يواجه الصحافيون الفلسطينيون الموت وجهاً لوجه. فبينما ينجو البعض بأعجوبة، يدفع آخرون ثمن الحقيقة بأرواحهم، إيماناً منهم بواجب توثيق الجرائم الإسرائيلية ونقل معاناة المدنيين في غزة إلى العالم.
يُدرك عبد القادر الصباح أن "لا عودة إلى الوراء ولا استسلام". يقول "سنواصل معركتنا في نقل الحقيقة حتى النفس الأخير". ففي 24 آذار، استُشهد الصحافي حسام شبات. وقبلها بيومين فقط، قُتل الصحافي محمد بردويل مع عائلته.
كذلك اغتالت إسرائيل أكثر من 208 صحافيين، كانوا جميعهم يرتدون الخوذ والسترات الصحافية. ومع ذلك لم يردع ذلك جيش الاحتلال عن استهدافهم بشكل مباشر.
تستخدم إسرائيل حجة جاهزة ومعلّبة لتبرير استهدافها للصحافيين، مدّعية أنهم "يعملون لصالح حماس"، بينما الواقع مختلف تماماً. ولم يقتصر التواطؤ على الاحتلال فحسب، إنما ساهمت بعض القنوات الإعلامية في التعتيم على الحقيقة، من خلال حجب المشاهد والصور الحقيقية للمجازر التي تُرتكب في غزة.
وفي هذا السياق، يؤكد عبد القادر الصباح أن "بعض الجهات الإعلامية الأجنبية تستعين أحياناً بعملنا وتنشر الموادّ التي نُسلّمها إياها. لكنها تتحفظ وتمتنع عن بثّ مشاهد قاسية تُظهر حقيقة إسرائيل وجرائمها، وآخرها كانت مجزرة دار الأرقم شرقي مدينة غزة".

الصحافي عبد القادر الصباح
يسعى عبد القادر جاهداً إلى توثيق كلّ شيء، منطلقاً في رسالته الصحافية بأمانة وصدق، بقلب مكسور، ولكن بإرادة لا تهزم. مع ذلك، يعترف بأن "بعض المشاهد يصعب نسيانها، وتظلّ محفورة في ذاكرتي حتى اليوم. من أصعب اللحظات التي لا تزال تسكن وجداني، مشاهد النزوح، وأجساد الأطفال الشهداء الملطّخة بالدم. هذه المشاهد المؤلمة لا تُمحى. لا يمكن تجاوز صورة الأطفال والوحشية التي اغتالت طفولتهم. ففي كل طفل أرى أولادي، الذين أنقذتهم من تحت الأنقاض ونقلتهم بسيارتي الخاصة إلى المستشفى، في حين لم يُكتب لآخرين النجاة من المجازر الإسرائيلية".
اليوم، يُدرك عبد القادر أن "كل لحظة قد تكون مهمته الصحافية الأخيرة، لكنه لا يستطيع السكوت عمّا يجري. إذا لم ننقل الحقيقة بأنفسنا، فلن ينقلها أحد. نحن نعلم أن أحداً لم يسأل، ولم يتحرك العالم أمام المجازر والجرائم التي ارتُكبت. ومع ذلك، وبحكم الأمانة التي نحملها، سنواصل معركتنا في إيصال الرسالة، وسنكون شاهدين لنهاية كل ظالم".
209 صحافيين شهداء
تواصل نقابة الصحافيين الفلسطينيين توثيق جميع عمليات الاستهداف التي طالت الصحافيين في قطاع غزة. ويؤكد نائب النقيب عمر نزال أنه حتى منتصف نيسان/أبريل، بلغ عدد الصحافيين الذين قُتلوا 209، فيما ارتقى عدد مماثل تقريباً من أفراد عائلاتهم.
ويشير إلى أنه "في إحدى الحالات، تم استهداف صحافي مع 46 فرداً من عائلته"، موضحاً بأن إسرائيل لم تأبه لعدد الضحايا الذين سقطوا، إذ كان الهدف الأساسي هو تصفية ذلك الصحافي، بغض النظر عن الثمن.
وكان لافتاً أن عدد الجرحى (150) أقل من عدد الشهداء من الصحافيين الذين ارتقوا في غزة، خلال أدائهم لواجبهم المهني. ووفقاً لما أشار إليه نزال، "فإن هذا يؤكد أن الاستهداف هدفه القتل لإسكات الأصوات، لا مجرد التخويف، وذلك بهدف تلميع صورة الاحتلال وتجنّب تشويه سمعته".
وفي السياق نفسه، اعتقلت إسرائيل نحو 150 صحافياً، أغلبهم من الضفة الغربية، حيث سُجلت 110 حالات اعتقال فيها، أُفرج لاحقاً عن نحو 70 منهم، فيما لا يزال 60 صحافياً قيد الاعتقال في السجون الإسرائيلية.
كذلك، فُقد أثر صحافيين اثنين، وسط تعتيم تام من قوات الاحتلال الاسرائيلي ورفضها الكشف عن مصيرهما، مما يُعدّ وفق المعايير الدولية جريمة إخفاء قسري.
كبسة الزر في الكاميرا لا تنقل الأنين الحقيقي
يحاول المصور محمد منصور توثيق كل مشهد وكل جريمة تُرتكب بحق المدنيين في غزة على يد القوات الإسرائيلية. يحمل عدسته ويمضي إلى المجهول، يخرج من منزله من دون أن يعلم إن كان سيعود. لكن ذلك لم يثنه يوماً عن مواصلة رسالته. فهو يؤمن بأن نقل الحقيقة واجب لا يمكن التراجع عنه.
يحمل منصور عدسته ويجوب الميدان، محاولاً توثيق كل ما يستطيع من مشاهد المجازر والدمار. ومع ذلك، تبقى بعض اللحظات محفورة في ذاكرته، يستحيل عليه نسيانها. يتحدث عن أشدّ المشاهد قسوةً خلال تغطيته للحرب في غزة، قائلاً "يصعب عليّ نسيان الأجساد التي احترقت بعد استهدافها بمسيّرة إسرائيلية في جنين. ما زالت صورهم عالقة في ذهني حتى اليوم. كذلك، لا يمكنني تجاوز حرقة الوالدين اللذين فقدا أطفالهما الأربعة، ولا يزال صدى صراخهما يتردد في أذني. بعض المشاهد تظل محفورة في الذاكرة، بوجعها وقساوتها. كبسة الزر في الكاميرا لا تنقل الأنين الحقيقي للناس".
يشاركنا منصور في تجربته الشخصية، إذ تعرّض لاستهداف مباشر خلال تغطيته اجتياح مدينة جنين؛ تجربة كادت تودي بحياته لولا نجاته بأعجوبة من رصاص القناصة.
ويروي لـ"النهار" أنه "في 3 أيلول/ سبتمبر 2024، كنت متوجهاً مع عدد من الزملاء الصحافيين إلى مدينة جنين لتغطية الاجتياح الإسرائيلي. وردتنا معلومات عن محاصرة القوات الإسرائيلية بعض المنازل في بلدة كفردان– غربي جنين. انطلقت ثلاث مركبات تحمل شارة الصحافة نحو البلدة. كنت أقود السيارة الأولى برفقة ثلاثة زملاء، تليها سيارة تابعة لوكالة "رويترز"، وأخرى تقلّ مصورين في وكالات محلية".
ونظرًا إلى خطورة المنطقة وتعقيد الأوضاع الأمنية، حرص منصور على التنسيق المستمرّ مع أحد الصحافيين المحليين لضمان الوصول بأمان. وبرغم كلّ الاحتياطات والإجراءات المتّخذة، فوجئ الفريق بوابل من الرصاص المباشر أطلقه قنّاص إسرائيلي، في استهداف متعمّد رغم وضوح شارة الصحافة على المركبات الثلاث.
محاولة قتل واضحة
يستذكر منصور لحظة الرعب قائلاً "الطلقة الأولى لم تصب هدفها، لكن الثانية اخترقت الباب الجانبي الأمامي إلى جواري، واستقرت بيدي اليسرى قبل أن تخرج منها. كانت الطلقة من بندقية قنص، انفجرت جزئياً في الباب، والجزء الآخر انفجر في يديّ".

المصور محمد منصور يوثق الجرائم الإسرائيلية في قطاع غزة.
في تلك اللحظة، أدرك منصور أن مهنته ليست مجرد توثيق للأحداث، بل معركة يخوضها يومياً من أجل إيصال الحقيقة، حتى لو كان الثمن حياته.
استمرّ إطلاق الرصاص على سيارة منصور، وأصابت الطلقة الثالثة المقعد الخلفيّ، من دون أن تُسفر عن إصابات. لكن اللافت أن الاستهداف كان موجّهاً إلى الجزء العلوي من الجسم، في محاولة واضحة للقتل، وليس للترهيب.
ورغم هذا الاستهداف المباشر، واصل منصور قيادة السيارة، مدركاً أن التوقّف يعني موتاً محتماً. ويؤكد في حديثه أنه "كان يستحيل عليّ إيقاف السيارة، لأن ذلك كان سيعني نهايتنا. وقد تابع القناص إطلاق النار باتجاهنا، فأطلق سبع رصاصات أخرى، بينما كنت أنزف بغزارة. وواصلت القيادة حتى وصلنا إلى نقطة تجمع الصحافيين، حيث كانت سيارات الإسعاف موجودة. والمفارقة أن نقطة استهدافنا لم تكن تبعد أكثر من 100 متر عن مكان التجمع، وهو موقع معروف للصحافيين، مما يعني أن الجيش الإسرائيلي كان يدرك تماماً مَن يستهدف".
لم يتوقف إطلاق النار عند هذا الحد، إذ واصل القناص استهداف السيارتين الأخريين، مطلقًا ثماني رصاصات إضافية، مما أسفر عن إصابة طفيفة. وقد خضع منصور لجراحة في يده، وكان ينتظر انتهاء مدة الاستراحة حتى يُعاود عمله الصحافي.
واستمرّت إسرائيل في استهداف المدنيين والصحافيين على حدّ سواء، الأمر الذي زاد من عزيمة الطواقم الصحافية على مواصلة معركة نقل الحقيقة بوجه آلة القمع والإجرام.
يؤكد منصور أن "استهداف الصحافيين ليس عشوائياً، بل هو سياسة ممنهجة تهدف إلى طمس الحقيقة ومنع أي صورة قد تفضح الجرائم الإسرائيلية. ومن خلال تجربتي الشخصية، أستطيع القول إن ما تعرضنا له لم يكن سوى استهداف متعمد عن سابق تصور وتصميم. كان القناص على بُعد 130 متراً فقط، أي أنه كان يرى بوضوح من هم في داخل السيارات. ومع ذلك، لم يتردّد في إطلاق النار. وهذا دليل قاطع على أن الهدف لم يكن مجرّد ترهيب، بل إسكات الصوت والصورة الحرة، في ظل غياب أيّ مساءلة أو محاسبة".
لم تؤدِ محاولة قنص منصور إلا إلى زيادة عزيمته وإصراره على مواصلة عمله، مؤكّداً أنه "طالما أنا أتنفس، فسأبقى أنقل الصورة للعالم".
وهنا نعود إلى السؤال الأهم "لماذا لم يُنظر بالشكاوى المقدّمة إلى محكمة الجنائية الدولية"؟ وفي هذا السياق، يؤكّد نائب نقيب الصحافيين الفلسطينيين عمر نزال أن "عدداً كبيراً من الشكاوى تم رفعه إلى الهيئات الدولية. لكننا تقدّمنا بثلاث قضايا محددة إلى المحكمة الجنائية الدولية قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر، اثنتان منها تتعلّقان باستشهاد زميلين صحافيين في غزة عام 2018. أما الثالثة، فترتبط بجريمة اغتيال الزميلة شيرين أبو عاقلة".
ويقول "رغم مرور سنوات، لم نشهد أي تحرّك جدّي على مستوى التحقيق في هذه القضايا الثلاث، ولم تلقَ النداءات والمطالبات المتكرّرة آذاناً صاغية. كذلك، لم نتلقَّ أيّ ردّ رسميّ من المحكمة الجنائية الدولية".
ويُرجع نزال هذا التجاهل إلى الضغوط السياسية الهائلة المفروضة على المحكمة، والتي تُعيق أداء دورها الطبيعي والمفترض في مساءلة مرتكبي الجرائم. لكنه يؤكد في المقابل أن هذا الواقع لن يستمر إلى الأبد، مشدداً على أهمية مواصلة الجهود في تقديم الشكاوى وتوثيق الجرائم، "لأن العدالة، وإن تأخرت، لا بد من أن تُنجز ذات يوم، وسيُحاسب الاحتلال على جرائمه".
0 تعليق