هشاشة الإنسان: مقاربات بول ريكور - تكنو بلس

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
هشاشة الإنسان: مقاربات بول ريكور - تكنو بلس, اليوم الثلاثاء 29 أبريل 2025 08:30 صباحاً

من خلال أعمال المفكر والفيلسوف بول ريكور، يقارب كتاب "هشاشة الإنسان" الصادر حديثاً عن جامعة رين الفرنسية، مسألة هشاشة الحياة البشرية، في مواجهة وهم مركزية الإنسان المطلقة، والتناقض المتزايد بين فكرة سيطرة الإنسان على الطبيعة وبين تزايد هشاشته أمام معضلات الوجود، وذلك عبر ثلاثة مجالات رئيسية، حيث تتحاور الفلسفة مع الطب والأنثروبولوجيا.

يضم الكتاب- الذي أشرف عليه الفيلسوف جيروم بوري- دراسات مستوحاة من أفكار ريكور، من دون أن تكون تحليلاً شاملاً لأعماله. فقد كان ريكور نفسه يرغب في أن يواصل أصدقاؤه البحث في أفكاره بدلاً من أن يصبحوا مجرد تلاميذ له. ومن بين هذه الأفكار، تأتي مسألة هشاشة الإنسان كموضوع مركزي، وهي فكرة تتناقض مع عنف العالم المعاصر، حيث يتجلى هذا العنف أحياناً بشكل صريح، وأحياناً أخرى تحت ستار اللطف والمنافسة والإنجاز. وينطلق الكتاب من  التعريف الفريد الذي قدمه ريكور للهشاشة على نحو ضمني بوصفها "فرحة النعم في الحزن المحدود".

شهد بول ريكور (1913-2015) الصراعات الأوروبية في القرن العشرين والتي شكلت جزءاً أساسياً من تاريخه الشخصي. فقد قُتل والده في معركة المارن عام 1915، وظل هو نفسه سجيناً في ألمانيا من عام 1940 حتى التحرير. سنوات تعلم خلالها لغات أجنبية عدة واستطاع أن يكتسب معرفة واسعةً من الثقافة الألمانية. وهي سنوات أثرت على رؤيته للصلابة والهشاشة البشرية، إذ أصبحت الحرب تشكل الخلفية لكل تفكيره حول الإنسان. فقد تناول ريكور موضوع الهشاشة في كتابه "فلسفة الإرادة" (1950-1960)، حيث درس العلاقة بين الإرادي واللاإرادي. فالإنسان ليس كائناً حراً تماماً، بل هو كائن قابل للخطأ بطبيعته: قادر على الخير كما على الشر. وهذه القابلية للخطأ لا تعني مجرد نقص، بل تشير إلى عدم التناسب (مفهوم مستوحى من باسكال) بين المحدود واللامحدود، بين الجسد والروح، بين الرغبة والواقع. بهذا المعنى، يكون الإنسان كائناً منقسماً، يحيط به الحزن المحدود (النقص، الخسارة، الندم)، لكنه يحمل في الوقت نفسه فرح "النعم"، أي قدرته على تأكيد الحياة رغم كل شيء. إذن، الهشاشة ليست سلبية بالكامل، بل هي أساس القدرة الإنسانية. يتحدث ريكور هنا عن "الإنسان القادر"، المزود بموارد العدالة واللغة التي تمكنه من تجاوز الصراعات الداخلية والخارجية.

وتؤدّي اللغة دوراً محورياً في هذه الفلسفة. فهي أداة للوساطة، والحوار، والسرد، والاستعارة، ما يوفر إجابات للشر الذي يتجلى غالبًا كقطع للروابط والمعنى. كما يقول ريكور: "أقصر طريق بين الذات والذات يمر عبر الآخر"، مؤكداً بذلك أهمية التبادل والتواصل، فضلاً عن المواجهة الراهنة بين الهشاشة واليوتوبيات التقنية، أين تسعى اليوتوبيات العابرة للإنسانية وخطابات "التنمية الذاتية" أو "علم النفس الإيجابي" إلى إنكار هشاشة الإنسان، بوعودها بالسعادة المطلقة و"تعزيز" الإنسان عبر التكنولوجيا. فهذه الرؤى تُقلص الهشاشة إلى مجرد مرض أو شيخوخة أو موت، من دون أن تدرك أنها جوهرية في الإنسان. لكن هذه الهشاشة لا يمكن تخطيها، فهي أساس قدراتنا على التعاطف والتراحم واستقبال الآخر، ومحاولة إلغائها قد تؤدي إلى تجريد الإنسان من إنسانيته، وتحويله إلى آلة مُحسَّنة، تفتقر إلى المعنى والعلاقات الحقيقية.

ويستكشف الكتاب الهشاشة من ثلاث زوايا. أولاً، هشاشة الحياة البشرية - من خلال الفلسفة والطب - وهنا  تختلف هشاشة الإنسان عن هشاشة الكائنات الحية الأخرى. فمثلاً، المرض ليس مجرد ظاهرة بيولوجية، بل هو مرتبط بتاريخ المريض وثقافته وعلاقاته. لذا، يجب أن يراعي العلاج هذا التعقيد، معترفاً بأن الهشاشة قد تكون أيضاً مصدراً للقدرة (القدرة على التجاوز وإعطاء المعنى). والجانب الثاني، هو هشاشة "الإنساني" في الإنسان  - من خلال الفلسفة والأنثروبولوجيا - وفي هذا الجانب يبدو  الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على إنكار إنسانيته (من خلال العنف أو الاستغلال). أما الزاوية الثالثة للهشاشة فهي هشاشة المؤسسات، وهي المؤسسات الرمزية مثل العائلة والمجتمع والجماعة، ولكن أيضاً المؤسسات السياسية، وبشكل أكثر تحديداً المؤسسات الديموقراطية، والتي ربما هي المؤسسات الوحيدة التي تحافظ على حدٍ أدنى من إنسانية الإنسان. والتي تنتمي إلى فكرة هشةٍ بقدر ماهي قوية، لأنها تترك الصراعات مفتوحة. وهي تعتمد على مؤسسات حامية، يجب الحفاظ عليها من العنف والنسيان.

 

كادر: يعرّف ريكور الهشاشة على نحو ضمني بوصفها "فرحة النعم في الحزن المحدود"

 

 

المفكر والفيلسوف بول ريكور.

 

4094bb1fcd.jpgكتاب "هشاشة الإنسان" لريكور.

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق