نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
في وداع فرنسيس... البابا المُثيرُ للجَدَل - تكنو بلس, اليوم الاثنين 28 أبريل 2025 01:59 مساءً
الأب فادي سميا
«جاءَ ابنُ الإنسانِ يأكلُ ويشرب، فتقولون: هوذا إنسانٌ أكولٌ وشِرِّيبُ خمرٍ، مُحبٌّ للعشّارينَ والخُطاة!»
(لوقا ٧: ٣٤)
إنَّه كلامٌ بلا مواربة، كلامُ يسوعَ المذكورُ في إنجيلي متى ولوقا عن الجيلِ الذي لا يُرضيه شيء، إذْ رفضوا يوحنّا المعمدان لأنَّه كان زاهدًا، ويرفضون يسوعَ لأنَّه عاشَ قُربَ الناس، وأحبَّ الخطأةَ ودعاهم إلى التوبة.
يسوعُ لم يَخَفْ من مُخالطةِ الخطأة، بل جعلَ من قُربِه إليهم شهادةً على محبَّةِ اللهِ التي تفتِّشُ عن الضّائع وتُداوي الجريح. هذا الاتّهامُ الذي أطلقه عليه البعض، يُظهِرُ في الحقيقةِ عُمقَ رسالتِه: أنْ يكونَ "الله معنا"، لا في الأبراجِ العالية، بل في الشوارعِ، على الموائدِ، في البيوتِ البسيطة، حيثُ القلوبُ العَطشانةُ تنتظرُ كلمةَ حبٍّ وغفران.
في لحظاتِ وداعِ البابا فرنسيس، يَنطبِقُ ما قيلَ عن يسوعَ على البابا المُثيرِ للجَدَل، فقط لأنَّه كانَ كمُعلِّمِه.
في يومِ وداعِه، في زمنِ قيامةِ الربِّ يسوع، نصمُتُ أمامَ سِرِّ الحياةِ والموت، لكنّنا اليومَ لا نَنظرُ إلى رَحيلِ رجلٍ فحسب، بل نشهدُ على حياةٍ أُعطِيَت بالكامِلِ من أجلِ اللهِ والإنسان. البابا فرنسيس لم يكنْ فقط أُسقُفَ روما، بل كانَ قلبًا نابضًا في وسطِ الكنيسةِ والعالَم. رجلٌ خرجَ من تخومِ الأرجنتين ليُعانقَ آلامَ الإنسانيّةِ جميعًا، ويُعيدَ إلى الكنيسة، جسدِ المسيحِ السرّي، وجهَها الرَّحومَ والمُتواضِع.
وبينما يُسجَّى جَسدُه، يَبقى صوتُه حيًّا فينا:
"لا تخافوا من الرّحمة، لا تخافوا من الآخَر، افتحوا الأبوابَ للمسيح."
هذه كلماتٌ لا تُدفن، بل تُورَّث.
عاشَ البابا فرنسيس كأبٍ لا كحاكم، لم يجلسْ على عرش، بل وقفَ إلى جانبِ الناسِ، خصوصًا المجروحين والمنسيّين. سكنَ في دارِ القدّيسةِ مرتا بدلَ القصرِ الرَّسولي، كان يَطهو أحيانًا بنفسِه، يَحملُ حقيبتَه، ويَركعُ أمامَ الأطفالِ وكِبارِ السنّ.
رؤيتُه للكنيسةِ كانت: "كنيسةٌ خارجةٌ من ذاتِها"، تُشبِهُ الراعي الذي يَشمُّ رائحةَ خرافِه، لا كنيسةً مُغلقةً على امتيازاتٍ أو بروتوكولات.
أطلقَ سنةَ الرّحمةِ عام ٢٠١٥، ويوبيلَ الرّجاءِ الذي لا يُخيّب (رومة ٥: ٥) عام ٢٠٢٥، وفتحَ أبوابَ الكنيسةِ على مصراعيها لكلِّ إنسانٍ جريحٍ يَبحثُ عن الله. غيَّرَ منهجيَّةَ العلاقةِ بين الكنيسةِ والمؤمنين: لم تَعُدِ القوانينُ أوّلًا، بل المحبَّة، والحوار، والمرافقة.
قادَ إصلاحاتٍ شُجاعةً في الكوريا الرومانيّة، أعادَ ترتيبَ الأولويّات، وذكّرَنا أنَّ السُّلطةَ في الكنيسةِ هي خدمةٌ لا امتياز.
في رسالتِه البيئيّة Laudato Si’، دعا البشريّةَ إلى توبةٍ بيئيّة، مذكّرًا إنسانَ اليوم أنَّ الأرضَ بيتٌ مُشتَرَك يجبُ أن نَحميَه. وقفَ مع اللاجئين، ورفعَ الصوتَ في وجهِ الحروب والمجاعات، وقال للعالم: "لا يمكنُ أن نبنيَ سلامًا فوق الظُّلم."
زار أماكنَ لم يَزرْها بابا قبلَه، من العراق إلى أفريقيا، من أحياءِ الفقرِ إلى المنابرِ العالميّة، حاملًا حُلمَ الإنجيل.
لم يكنْ بابا الكاثوليك فقط، بل أبًا لكلِّ إنسان. فتحَ أبوابَ الحوارِ مع المسلمين واليهود والملحدين، ووقّعَ وثيقةَ "الأخوّة الإنسانيّة" في أبو ظبي، ليؤكِّد أنَّ الإيمانَ يجبُ أن يُوحِّدَ لا أن يُقسِّم.
تقرّبَ من الكنائسِ الأخرى، وسعى إلى وحدةِ الكنيسةِ بجسارةِ محبّة، لا بمنطقِ السُّلطة، ولا بالتخلّي عن أصالةِ الإيمانِ الكاثوليكي.
الصورةُ التي ستبقى في ذاكرتِنا، تلك التي ظهرَ فيها وحيدًا، تحتَ المطر، في ساحةِ القديس بطرس خلالَ جائحةِ كورونا، رافعًا القربانَ للعالمِ كلّه، في صمتٍ عميقٍ لا يحتاجُ كلمات.
كانت صلاتُه بسيطةً، صادقة، وكانَ يطلبُ دائمًا من الجميعِ أن يُصلّوا من أجلِه. في زمنٍ كثُرت فيه الأصوات، كان هو صوتًا يُصغي، لا يتكلَّم فقط.
إرثُ البابا فرنسيس ليسَ فقط وثائقَ ورسائل، بل أسلوبُ حياةٍ كنسيّ وروحيّ جديد: أسلوبُ التواضع، والقُرب، والرّحمة.
علَّمنا أنَّ الكنيسةَ ليست متحفًا للمقدّسين، بل مستشفىً للخطأة. وأنّه يُمكنُنا أن نُحبَّ الكنيسةَ رغمَ جراحِها، وأن نكونَ فيها شهودًا للرجاء، لا حرّاسًا على القوانين.
نُودِّعُه اليوم، لا كمن يُودِّعُ زعيمًا أو صاحبَ مقام، بل كمن يُودِّعُ أبًا غيّرَ وجهَ البيت. البابا فرنسيس زرعَ فينا حُلمًا لكنيسةٍ أكثرَ إنسانيّة، أكثرَ قربًا من الألم، أكثرَ شَبَهًا بيسوع.
لم يكنْ كاملًا، لكنَّه كان أمينًا. لم يدّعِ الكمال، بل طلبَ الرحمة. اليوم، ونحن نرفعُ صلاتَنا من أجلِ راحته، نشعرُ أنَّ رسالتَه لم تنتهِ، بل تبدأُ معنا.
فليمنحْنا الربُّ شجاعةَ التواضع، وفرحَ الإنجيل، وجرأةَ المحبّة، لكي نحملَ نحنُ أيضًا هذا النورَ فينا، ونمضيَ به إلى العالم، تمامًا كما أوصى يسوعُ القائمُ من الموتِ تلاميذَه:
"اذهبوا... وأنا معكم كلَّ الأيّام."
شكرًا أيُّها البابا المُزعج، شكرًا أيُّها المُثيرُ للجدل، لقد جسّدتَ في حياتِكَ صورةَ يسوعَ الحيّ، القريبِ من شعبِه، والحاضرِ في كنيستِه بأبهى صورة.
حسبَ التلميذُ أنْ يُشبَّهَ بمعلّمِه، على أنَّه معاشرٌ للزواني والخطأة... تَشفّعْ فينا من ملكوتِ يسوع، ونحن سنُصلّي كي يُظهِرَ اللهُ قداستَك قريبًا.
شكرًا، بابا فرنسيس... إلى اللقاء
0 تعليق