نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
البابا فرنسيس: سياسة لاهوتية حية تتحدى الرمادية وتنبض بالمواجهة - تكنو بلس, اليوم الجمعة 25 أبريل 2025 03:19 صباحاً
الخوري ريمون أبي تامر
لطالما حافظت السياسة الخارجية للفاتيكان على تموضعها الخاصّ: لا هي طرف في النزاعات، ولا هي غائبة عنها. كانت دوماً تمارس حضورها الأخلاقي من موقع "الضمير الكوني"، القادر على الإصغاء الى ما يتجاوز الجغرافيا، والناطق بلغة تتعالى عن الصخب الأيديولوجي. إلا أن عهد البابا فرنسيس أدخل على هذه السياسة نَفَساً جديداً، جعلها أقرب إلى تدخل "نبويّ" في قلب المأساة، لا مجرّد صوت ملحق بالحدث.
البابا فرنسيس، الخارج من أحشاء أميركا اللاتينية ومن رحم لاهوت التحرير، لم ينسَ الدرس الأول الذي تعلّمه هناك: أنّ الصمت أمام الظلم ليس حكمة، بل خيانة. لم يكتفِ بتجديد مفردات الفاتيكان، بل أعاد صوغ جوهر حضوره السياسي على الساحة الدولية. في خطابه، لا تتقدم الديبلوماسية على الحقيقة، بل تُعاد هيكلتها انطلاقاً من ألم الشعوب.
ففي حرب أو كرانيا، لم يركن البابا فرنسيس إلى المعادلات الواقعية الباردة، بل سلك درباً شائكة: أدان الاحتلال، وناشد الحوار، ورفض تسليح النزاع. لم يكن ذلك توازناً هشاً بين القوى، بل التزاماً مبدئياً برفض منطق الحرب من أساسه. كان يدرك أن من يصمت اليوم عن عنف الأقوياء، سيتورّط غداً في إنتاج مآسٍ لا تقف عند حدود أوروبا. لذلك رفع صوته منذ الأيام الأولى، لا ليُوازن بين المتصارعين، بل ليذكّر بأن الحرب ليست قدراً، بل فضيحة إنسانية.
على هذا النحو، تحرّك البابا أيضاً في الشأن اللبناني، وخصوصاً في قضية تفجير مرفأ بيروت. لم يتردّد في تحميل المسؤولية السياسية والأخلاقية، وطالب علناً بكشف الحقيقة والمساءلة. كان يدرك أن التفجير لم يكن حادثاً عرضياً، بل لحظة مفصلية كشفت انهياراً عميقاً في ضمير الطبقة الحاكمة. لم يكن النداء مجرّد تضامن، بل إدانة. إدانة للمراوغة، للتواطؤ، وللسعي إلى دفن الحقيقة في ركام الخراب.
سياسياً، لم يدخل البابا فرنسيس لعبة المحاور، لكنه لم يتردّد في اتخاذ مواقف تزعج التوازنات القائمة. ففي أكثر من موضع، تحدّث عن "أوروبا المتعبة"، و"الضمير النائم"، و"النسيان الممنهج للآخر". لم تكن تلك إشارات لغوية، بل قراءات نقدية عميقة لمجتمعات بدأت تفقد حساسيتها حيال المعاناة، وتتقوقع خلف حدودها الحديدية.
البابا فرنسيس لا يستخدم المنابر أدوات عرض، بل يحوّل الكلمة إلى ممارسة أخلاقية تتقاطع مع السياسة من دون أن تختزلها. هذا النمط من الاشتباك اللاهوتي مع العالم يعيد رسم مفهوم "السياسة الكنسية" في الزمن المعاصر: لا كهيمنة ناعمة، بل كفعل نقديّ، ومرافعة دائمة عن كرامة الإنسان.
إنّ مشروع البابا فرنسيس السياسي لم يكن بحثاً عن دور عالمي، بل استعادة للفكرة الأصلية عن الكنيسة كـ"جماعة شهود للحقيقة والحرية" تتدخل حين يسود الصمت، وتقاوم حين تُصبح المعايير رمادية. إنه لا يفصل بين اللاهوت والسياسة، بل يحرّرهما من الارتهان الأيديولوجي، ليعيد طرح الأسئلة الأولى: ما معنى أن نؤمن في عالمٍ يتهاوى؟ وكيف يمكن للإيمان أن يكون في صفّ الضعفاء لا في ظلّ الأقوياء؟
إن التغيير الذي أحدثه البابا فرنسيس في السياسة الفاتيكانية كان بمثابة فتح لآفاق جديدة لفهم العلاقة بين الإيمان المسيحي والسياسة في العصر الحديث. لا يمكن فهم مواقفه في قضايا مثل الحرب، العدالة الاجتماعية، واللامساواة من دون العودة إلى فلسفته التي تجمع بين الإيمان والممارسة السياسية في سياقٍ يعكس تناقضات العالم المعاصر. لم يكن بابا الفاتيكان في زمنه مجرد "حكم أخلاقي"، بل كان فاعلًا سياسياً ذو بصيرة عميقة في فلسفة السلطة والعدالة.
ما يميز رؤية البابا فرنسيس هو رفضه لتفكيك السياسة عن الأخلاق، وتحقيق العدالة من طريق الإصغاء إلى المهمشين، ورفع أصواتهم في وجه القوى العظمى. من هنا، فإن فلسفته السياسية تتقاطع مع مفهوم "العدالة الموزعة" الذي يعتمد على أن كل فرد، بغض النظر عن موقعه في الهرم الاجتماعي، يمتلك حقاً أساسياً في الكرامة الإنسانية. هذه الرؤية الفلسفية تبرز حين يتحدّث عن الحق في السلام، كما في حالتي أوكرانيا ولبنان، إذ يرى أن الحلول ليست مجرد تسوية بين الأطراف المتنازعة، بل فرصة لإعادة تصوّر عالم يسعى نحو التناغم والعدالة الشاملة.
وإنه من خلال هذا الفهم العميق للسياسة كفعل نابع من "الضمير الكوني"، كانت مواقف البابا تخلو من التصنيفات الجغرافية أو الأيديولوجية. لم يكن يساوم على مبادئه في مواجهة القوي أو الظالم، بل كان يسعى الى إحداث تحوّل جذري في طريقة تعامل العالم مع قضايا الإنسانية والمظالم الهيكلية. في كل تصريح، كانت هناك دعوة الى ثورة سياسية أخلاقية، وثورة فكرية عميقة حول ماهية السلطة وكيفية توظيفها لمصلحة الأضعف.
في هذه اللحظة المفصلية من التاريخ، تبقى الأسئلة التي طرحها البابا فرنسيس على العالم قائمة: كيف يمكن أن تستمر السياسة في ظل عالم لا يزال يعاني من أزمات إنسانية مستمرة؟ هل من الممكن إعادة هيكلة مفهوم القوة والسلطة ليكونا في خدمة العدالة والمساواة الحقيقية؟ في عالم يتزايد فيه التهميش والفقر، يعيدنا البابا فرنسيس إلى جوهر الممارسة السياسية الفلسفية: "السياسة ليست مجرد لعبة قوى، بل هي مسؤولية حيال الإنسان في كرامته".
0 تعليق