"هند" هدى بركات... حياة مشروطة بالذكريات على ناصية وهم نهر - تكنو بلس

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
"هند" هدى بركات... حياة مشروطة بالذكريات على ناصية وهم نهر - تكنو بلس, اليوم السبت 19 أبريل 2025 04:41 مساءً

هل تصاب الأوطان بـ"الأكروميغالي"؟ تتضخم أطرافها، وعلى غفلة تغدو قبيحة مثل "هند أو أجمل امرأة في العالم"، بطلة رواية هدى بركات الفائزة بجائزة الشيخ زايد للكتاب.

يمكن القول: وجه الشبه يبقى نسبياً، ونبقى على تعصبنا لمدينة تشفى من دمعها، تعاند عصف الأمونيوم، ولا تستسلم يوماً مثلما فعلت والدة هند حين تنكرت لمرض ابنتها الذي حولها من "أجمل امرأة في العالم" الى مسخ.

عندها يصبح السؤال: ماذا لو أنهت بركات روايتها الصادرة عن دار الآداب متأخرة بضعة أشهر؟ أو لنفترض: هل كانت ستبقى بيروت مدينة تنهار بصمت في جسد هند المتضخم؟ وماذا عن الوعد بعهد جديد ومدينة خالية من الشعارات الحزبية؟ حتماً، كان تغيّر المونولوغ، ليأخذ صيغة الجماعة بحثاً عن جمال في مدينة تسكنها وتشبهها.

مدينة قالوا إنها تشبه "باريس"، والأخيرة لفظت هند منذ وهنت ذاكرتها بفعل المرض وتكسرت الكلمات بالفرنسية. فكان الخيار العودة الى الجذور، إلى مدينة أصابتها أزمات متلاحقة: الحرب، الفساد، الانفجار وسرقة أموال المودعين، هناك على مقربة من نهر لا مياه جارية في أقنيته، حيث بقي جذع هزيل من صفصافة محتفظاً بأخضر وارف. وهند لا تسكن على ناصية نهر، بل على وهم نهر.

كما لو أنها اختارت أن تحيا قرب شيءٍ يذكّرها بما كان يمكن أن يكون: الحب، الجمال، الوطن، الانتماء، وكل ما جفّ وتبخّر. المياه التي غابت من النهر، غابت أيضاً من عينيها ومن صوتها ومن جسدها، حتى باتت حياتها مشروطة بالذكريات، كأنها كائن عالق على شفير الحياة، لا يموت تماماً ولا يحيا تماماً.

 

عزلة نفسية

 

 

 تقول بطلة الرواية هند، شقيقة هنادي المتوفاة: "الحكاية لا ينفع النسيان لمحوها ولا التذكر لاسترجاعها". هكذا تتخلى عن العالم الخارجي الذي لفظها. تعيش في عزلة نفسية ومكانية، لا تختلف كثيراً عن بيروت الحديثة: مدينة يهرب الناس منها، وتتقلص الحياة فيها إلى حدّ الخفوت. تتحول العزلة من علامة ضعف إلى شكل من أشكال النجاة، ومن الصمت إلى شكل من أشكال الاحتجاج.

quoterotated.svg

وكأن كلا الكائنين، المرأة والمدينة، عالقان في حالة بقاء مع وقف التنفيذ

quote.svg

 

وهند لا تنتمي، لا إلى عائلتها، ولا إلى مجتمعها، ولا حتى إلى جسدها. تشعر بأنها غريبة، غير مرئية، كما هي حال كثير من اللبنانيين الذين يشعرون بأنهم غرباء في وطنهم. يبحثون عن اعتراف لا يأتي، وعن وطن يشبه منفى داخلياً، أو هوية ممزقة.

الجمال نعمة مشروطة

 

 

لكن مرض هند لا شفاء منه. كأن الجمال لم يكن إلا "نعمة مشروطة"، لا تُغفر لحظة ضياعها. هذه القصة الشخصية تُوازي تماماً ما جرى لبيروت، ومن خلالها تنجح الروائية في جعل الألم الخاص مرآةً لألم جماعي، وتحويل الجسد المشوه إلى استعارة قوية عن وطن منكوب ومدينة تشظت.

إنها حكاية العيش مع الذاكرة المؤلمة. هند تعيش في ظل أختها الراحلة، لا تستطيع الانفكاك من الماضي. وبيروت تعيش على ذكريات المجد القديم، لا تزال مشدودة إلى ماضيها من دون أن تتعافى.

وكأن كلا الكائنين، المرأة والمدينة، عالقان في حالة بقاء مع وقف التنفيذ: حيّان ولكن بلا حياة، موجودان لكن بلا مكان واضح في العالم. تبقى مسألة، أن بين هند وبيروت ذلك التوق الى عيش الحياة مهما قست: "يكفي أن يقرِّر الإنسان أن يفرح. يكفي أن نُعمِل إرادتنا، فنحن شعبٌ معروفٌ عنه حبُّه للحياة".

 

quoterotated.svg

وكأن كلا الكائنين، المرأة والمدينة، عالقان في حالة بقاء مع وقف التنفيذ

quote.svg

 

وأكثر من حب اللبناني للحياة، معروف أنه "حكواتي" يبقي للرواية التاريخية حسابات مفتوحة "بتصرف"، تماما كما تفعل والدة هند حين تسألها جاراتها عن مصير زوجها. فالتاريخ هنا لا يُروى بالأحداث والوقائع، بل يُستحضر من خلال الندوب التي تركها في الجسد اللبناني والفردي.

وقد اختارت بركات أن تقدم نوعاً آخر من "الرواية التاريخية"، ليست عن الماضي، بل عن الحاضر الذي أصبح تاريخاً، ولا عبر الحروب أو المعارك، بل عبر تأملات في خراب الهوية، في التحولات التي أصابت الإنسان اللبناني، ليس في شكله فحسب، بل في شعوره بنفسه، بالانتماء، بالحياة.

 

هند، بجسدها المشوّه، تمثّل النسخة ما بعد الحداثية من الرواية التاريخية: الرواية التي لا تسرد التاريخ، بل تفككه، تشكك فيه، وتُظهر آثاره النفسية والاجتماعية على من عاشوه. لا بطولات هنا، ولا أوهام مجد، بل هناك فقط أجساد محطمة، وأرواح تئن، ومدن تنهار بصمت.

 

07a79b0895.jpg

 

أما الرجل في الرواية، فإنه يظهر كظل يتنقل بين الأمكنة، بين الوطن والمنفى، بين العائلة والانفصال. وحين يقرر الرجوع الى بلاده، يحدث ذلك لا حباً بهذه البلاد، وإنما لأن المنافي طردته. هو مثل هند: منفي داخلياً، حتى وهو في بلاده. لا يجد في الوطن سوى ركام الذكريات، مدن بلا ملامح، بلا أمان، وبلا حلم مشترك.

لغة هدى بركات في الرواية، كعادتها، شاعرية، مشحونة بالتأملات، وتعبّر عن الألم الإنساني بطريقة حساسة ومكثفة، إذ يصبح الألم شخصياً ووطنياً في آن واحد. هند هي بيروت، وبيروت هي هند. وكلتاهما تحملان آثار الجمال الضائع، والخذلان الكبير، ومحاولة العيش في عالم لا يعترف إلا بالكمال أو الموت.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق