نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
السيرة الذاتية للبابا فرنسيس: مزيج من الروحانيات وحبّ الحياة والثورة - تكنو بلس, اليوم الاثنين 21 أبريل 2025 09:33 مساءً
لم يشتهر بابوات الكنيسة الكاثوليكية بكتابة مذكّرات شخصية تكشف ما خفي من حيواتهم، إذ لطالما كانت "السيرة الذاتية" أمراً نادراً في تاريخ الكرسي الرسولي، بل اعتُبرت لزمن طويل أمراً لا حاجة إليه من بابواتٍ يفضّلون أن تعبّر أعمالهم عنهم. لكن البابا فرنسيس، في سنّ الثامنة والثمانين، كسر هذا التقليد، وأصدر كتاب "الأمل: السيرة الذاتية"، في خطوة تاريخية تشكّل أول سيرة ذاتية منشورة لبابا أثناء تولّيه المنصب.
في هذه الصفحات، يرسم البابا صورة حميمة لذاته، تُظهره كراعٍ متجذّر في الحياة اليومية والإيمان البسيط، وكقائد كنسيّ عالميّ يتصدّى لأزمات القرن. النبرة صحافية وإنجيلية في آن واحد: يعالج الأزمات و"الفضائح"، ويتأمل في السياسة العالمية، ويروي ذكرياته بعينٍ نقدية. الكتاب يقدّم سرداً واسعاً لمسيرة حياته، من نشأته في الأرجنتين حتى انتخابه حَبْراً أعظم، ويتوقف عند أبرز المحطات التي شكّلت حبريته.
سيرة بابوية أولى من نوعها
صدر كتاب "الأمل" في كانون الثاني/يناير 2025 بالتعاون مع المحرّر الإيطالي كارلو موسّو، وهو ثمرة ستّ سنوات من الحوارات الشخصية العميقة. وكان من المفترض أن يُنشر بعد وفاة البابا. "الكتب تتطلّب جهداً أقلّ من السفر"، قال في إشارة إلى تراجع قدرته الجسدية، مؤمناً بأن الكتابة تتيح له مخاطبة العالم الأوسع. وكعادته، تمرّد على التقاليد، فلم يقدّم مجموعة عظات أو مقابلات منقّحة، بل قدّم عملاً أدبياً شخصياً.
كتاب 'الأمل: السيرة الذاتية'. (Mondadori)
يأتي السرد بأسلوب أشبه بتطريز مجموعة مشاهد متفرقة من الذاكرة والخواطر والتجارب. وقد حرص موسّو على أن يترك للبابا حرّية السرد، من دون تدخّل مباشر. في لحظة، يبدو فرنسيس كما الجدّ الحنون، يحكي عن طفولته وحبّه للرقص؛ وفي لحظة أخرى، يُصبح القائد الروحيّ الجادّ المنادي بالعدالة البيئية والاجتماعية. في أحيان كثيرة، يتوجّه إلى القارئ مباشرة، داعياً إيّاه إلى الرجاء.
لا يمكن اعتبار الكتاب اعترافاً بالمعنى التقليدي، ولا سرداً تأريخياً شاملاً، بل هو أقرب إلى فصل جديد في حوار فرنسيس الطويل مع البشرية. يركّز على التجارب التي شكّلت رؤيته، متعمّداً تجاوز بعض المحطات الحسّاسة. ومع ذلك، يظلّ الخيط الناظم واضحاً: الإيمان بالرجاء، بالله، بالناس، وبقدرة الكنيسة على مجابهة تحديات العصر. يقول في المقدمة: "السيرة الذاتية ليست قصتنا الخاصّة، بل ما نحمله معنا من أعباء". وبهذا، يفتح قلبه، متأمّلاً في الطفولة والمراهقة والإخفاقات والنجاحات، ليشرح رؤيته للعالم والكنيسة.
حياة عادية ورسالة استثنائية
ولد خورخي ماريو برغوليو في أربعينيات القرن الماضي في بوينس آيرس، ونشأ في كنف عائلة مهاجرة متواضعة. لم يكن طفلاً خارقاً، بل كان صبياً عادياً يحب كرة القدم، ويعاني نوبات من الحزن، وفق ما يصف نفسه. أحبّ رقصة التانغو واعتبرها "حواراً وجدانياً نابضاً بالجذور القديمة". يبدأ كتابه من قصة هجرة أجداده من إيطاليا إلى الأرجنتين، موضحاً كيف أن نجاتهم من سفينة غرقت لاحقاً جعلته يدرك هشاشة المصير البشريّ ومصاعب المهاجرين، وهو ما سيشكّل حجر الأساس في اهتمامه اللاحق بقضايا اللاجئين والضعفاء.

البابا فرنسيس. (أ ف ب)
يتوغّل القسم الثاني في تأمّلاته الروحية والضميرية. يطبّق فرنسيس التمارين الروحية اليسوعية على نفسه، فيراجع إخفاقاته بأمانة. يعترف بضربه أحد أصدقائه في مشاجرة طفولية، أو بطلبه مبلغاً من زميلٍ لتصليح درّاجة. مواقف بسيطة لكنها تؤلمه حتى اليوم. ويقول بصراحة إنه لا يشعر بأنه "مستحقّ للبابوية". هذه النبرة الاعترافية تضفي على الكتاب طابعاً رهبانياً، حتى في ذروة صراحته، فيؤكّد أنه لا يعتبر الكنيسة متحفاً للقدّيسين بل "مستشفى ميداني للجرحى".
يستشهد كثيراً بالإنجيل والقديسين، ويتكرّر تأكيده أن الكنيسة "بيت للجميع". لا يستثني أحداً من محبّة الله، بمن فيهم المطلّقون، والمثليون، والمتحوّلون جنسياً. وبذلك، يعيد الدفاع عن مواقفه الجدليّة.
رجاء في عالمٍ متصدّع
من التغيّر المناخي إلى الحروب، لم يتردّد البابا يوماً في دخول المعترك السياسي، ويُظهر كتابه كيف أن التزامه الديني هو المحرّك الأساس لمواقفه. عايش البؤس في أحياء الأرجنتين الفقيرة، وتأثّر بروايات والده عن الحرب العالمية الأولى، ما جعله معادياً للحروب ومدافعاً عن الفقراء. يرى أن العناية بالمهاجرين أو الكوكب أو المهمّشين ليست إحساناً بل "واجب إيماني". ويكتب: "السلام لا يُبنى بالجدران"، في انتقاد ضمني للسياسات الدولية الانعزالية.

في ساحة القديس بطرس، الفاتيكان، بداية أزمته الصحية. (أ ف ب)
ولا يُخفي أنّ هذه المواقف كلّفته أعداءً، حتى في داخل الكنيسة. ينتقد بشدّة التيارات التقليدية المتصلّبة، ويكتب بحزم عن كهنة يتفاخرون بالألبسة الفاخرة والزخارف الليتورجية، معتبراً أن "هذه المظاهر قد تخفي خللاً نفسياً أو سلوكياً أو حتى اضطراباً عميقاً". هذا الوصف الحادّ يعكس مدى إصراره على تحويل الكنيسة إلى مساحة أكثر بساطة وتواضعاً وروحانية.
يمثّل كتاب "الأمل" شهادة حيّة على قوّة الرجاء المتجذّر في الإيمان. وهو دعوة إلى العمل من أجل عالم أكثر عدالة ورحمة ووحدة. رغم سنّه المتقدّمة والهجوم الأيديولوجي الذي تعرّض له، ظلّ البابا فرنسيس متفائلاً، مؤمناً بأن "الخمر الجيّدة لم تُقدَّم بعد". سيرة ليست فقط للقراءة، بل للتأمّل والتغيير، من بابا فهم رسالة الدين وجوهره، ونبذ الانقسامات والحروب باسم الأديان، ورأى العالم بعين القلب حتى آخر لحظة.
[email protected]
0 تعليق