على مسافة 20 دقيقة من مطار أبوظبي الدولي،و بين ميناء زايد وجزيرة الجبيل، ورشة لا تشبه الا نفسها، بنّاؤوها ليسوا معماريين ومهندسين فحسب، وإنما هم أيضاً فنانون ومبدعون وأثريون يسابقون الوقت لإنجاز ما سيكون منطقة ثقافية، تروي بعيون المستقبل، التاريخ الثري للمنطقة والعالم،  وتشكل منصة للتبادلات الثقافية مع سائر الدول.

من بعيد، تبدو المنطقة هذه أشبه بمنصة عائمة، منشآت ذات أشكال هندسية عصرية، بعضها اكتمل وبعضها الآخر تزنره السقالات، تربض على شاطئ السعديات الساحر. متاحف "اللوفر أبوظبي"، و"بيركلي أبوظبي" المركز الأول من نوعه في المنطقة لكلية  الموسيقى الأميركية الشهيرة، و"منارة السعديات" و"بيت العائلة الإبراهيمية" و"مؤسسة بسام فريحة للفنون"، أول متحف خاص هناك، حجزت مكاناً لها في المنطقة، وآخر "الواصلين" "تيم لاب فينومينا أبوظبي" الساحر. وينتظر اكتمال التجربة انجاز ثلاثة متاحف وتجارب رائدة هي "متحف زايد الوطني" و"متحف التاريخ الطبيعي في أبوظبي"  و"متحف غوغنهايم أبوظبي".

أواخر 2025 هو الموعد المحدد لاكتمال أحد أكبر تجمعات المؤسسات الثقافية في العالم بما يؤذن بحقبة جديدة من التبادل الثقافي، جنباً إلى جنب مع نشاطات ومهرجانات ومعارض وجوائز أدبية وفنية لطالما استضافتها أبوظبي وشكلت جزءاً من القوة الناعمة للدولة الخليجية.

تعود جذور التنمية الثقافية في أبوظبي إلى ما قبل تأسيس دولة الإمارات العربية المتحدة عام 1971. فقد مهّد الشيخ زايد بن سلطان الطريق، عندما كان حاكم أبوظبي، للحفاظ على تراث الإمارة بانشائه متحف العين عام 1969 لحماية الكنوز الأثرية التي اكتشفتها بعثة دانماركية، ليصبح لاحقاً حجر الأساس في جهود الحفاظ على تاريخ الإمارة الغني.  وبعد عقد، أنشأ "المجمع الثقافي" الذي خصص لعرض الفنون والآداب الاماراتية وعقد ندوات أدبية وثقافية.

ومع الصعود السريع لدولة الإمارات العربية وتحولها نموذجاً في التحديث والتنمية، خصصت حيزاً واسعاً لمعارض الكتب والجوائز الثقافية والمهرجانات لتصير ركناً أساسياً في ديبلوماسيتها الثقافية. فالدولة التي اكتسبت شهرة واسعة بمراكمة الأرقام القياسية أدركت  باكراً قوة الإبداع وتأثيره في كسب العقول والقلوب واكتساب النفوذ، والمّت بأهمية التبادلات الثقافية كأدوات لبناء الإنسان وتعزيز العلاقات والتفاهم بين الشعوب.

وليست المنطقة الثقافية في السعديات ببعيدة عن هذا التوجه. 

يقول رئيس دائرة الفنون والسياحة في أبوظبي محمد خليفة المبارك الذي يعدّ المحرك الأول لهذا المشروع الضخم، إن المنطقة الثقافية في السعديات "تشكّل أملنا الثقافي بصفتها مساحة رحبة للاحتفاء بالأشكال والأنواع والأنماط الفنية والفنانين"، وهي "تُجسد رسالة التنوع الثقافي التي ستصبح الأكثر قوة مع الوقت، ما يعزز الروابط العالمية ويلهم التبادل الثقافي، عدا كونها فرصة متجددة لاستعادة الماضي وفهم الحاضر والتطلع إلى المستقبل. "ستحافظ المنطقة على التراث الغني  لماضينا بينما تقود مستقبلنا الديناميكي وتعزز دور أبوظبي كمركز عالمي للابتكار الثقافي والحوار، ما يؤثر بشكل عميق على دولة الإمارات العربية المتحدة وخارجها".

اللوفر أبوظبي 
رفعت أبوظبي سقف الرهان الثقافي بافتتاح "اللوفر أبوظبي" عام 2017 ليرسي بتصميمه وتنظيمه الفني الملهم، معايير جديدة للمتاحف، ويحدد القواعد العامة للمشروع الطموح.
ويضم المتحف اليوم أعمالاً فنية تنتمي الى العديد من العصور والحضارات، ويعرض الأعمال وفق مسار زمني يمتد من حقب ما قبل التاريخ حتى الحقبة المعاصرة،  مسلطاً الضوء على السمات المشتركة لهذه الشواهد من التاريخ الإنساني. 
ولا يمكن الزائر إلا التوقف عند الحوار القائم بين الأعمال الفنية الموزعة على 12 ردهة، والتي تكشف عمق الترابط بين المجتمعات الإنسانية. 
هذا الترابط يكاد أن يكون القاسم المشترك بين المنشآت الثقافية في السعديات. وهو يتجلى أيضاً في "بيت العائلة الإبراهيمية" الذي يضم جامعاً وكنيسة وكنيساً ومركزاً تعليمياً، ويجسد تصميمه القيم المشتركة بين الاسلام والمسيحية واليهودية.

مؤسسة بسام فريحة للفنون
وفي خطوة طليعية تعكس التزام تعزيز الابتكار الثقافي والتحول مركزاً ثقافياً رائداً، أصدرت الإمارات مرسوماً بقانون اتحادي يسمح بإنشاء المتاحف الخاصة وتشجيع الاستثمار الخاص في الفنون، وتوسيع نطاق تنوع المشهد الثقافي.
 وفي هذا السياق، تُعد "مؤسسة بسام فريحة للفنون" المؤسسة الفنية الخاصة الوحيدة في منطقة السعديات الثقافية، وهي تركز على عرض تشكيلة من المقتنيات الفنية العالمية والإقليمية والمحلية، ولاسيما منها  لوحات المسشترقين. وهي متاحة للجميع مجاناً. 

مؤسسة بسام فريحة للفنون

وتحرص المؤسسة على دعم المواهب الفنية الناشئة ورعايتها وتشجيع الحوار وتعزيز التعليم الفني من خلال برامج متنوعة وشاملة تُقام على مدار السنة.
 تقول الناطقة باسم المتحف وكبيرة أمنائه ميكاييلا ووتريلوت: "سعينا العام الماضي الى أن نكون  مؤسسة مكملة لبيئة ثقافية غنية في منطقة السعديات"، و"عرضنا قطعاً نادرة كانت ستبقى مخفية في المنازل الخاصة". 
إلى ذلك، تركز المؤسسة على العمل الخيري والتعليم، "لنجعل تعليم الفنون مجانياً وفي متناول الجميع لإلهام الأجيال المقبلة".
المغنية الكلاسيكية الروسية يانا مان التي أحيت الذكرى السنوية الأولى للمؤسسة، أبدت اعجابها بالمشهد الثقافي في منطقة السعديات. وقالت إنها "مذهلة، أستطيع رؤية الحماسة والطاقة". وتوقعت تزايد الحفلات الفنية الراقية في المنطقة مع انتشار المتاحف والمقار الفنية.

"تيم لاب فينومينا"
ويشكل "تيم لاب فينومينا أبوظبي" تجربة إبداعية جديدة في الجزيرة، وسيكون عند افتتاحه أمام الزوار آخر بدءاً من اليوم رحلة مذهلة يكتشف فيها الزائر نفسه من خلال تلاقي الفن والعلوم والتكنولوجيا والعالم الطبيعي.

 تيم لاب فينومينا

مبناه يبدو مركبة فضائية هبطت للتو على مساحة 17 ألف متر مربع. يجمع المتحف بين الفن والهندسة المعمارية مع أحدث التقنيات والعلوم ليقدم تجربة فريدة متعددة المقاربة من خلال 17 تجربة فنية رقمية تتغير مع كل زيارة جديدة.

متحف زايد الوطني
وغير بعيد منه، يربض متحف زايد الوطني الذي يستوحي المتحف تصميمه من شكل جناح الصقر أثناء التحليق. وهو يهدف إلى الاضطلاع بدور رئيسي في التعريف بالتراث الثقافي الغني لدولة الإمارات، وتقديم رواية شاملة عن التطوّر الذي شهدته الدولة والمنطقة، من عصور ما قبل التاريخ حتى العصر الحديث. 

سيضم المتحف ست صالات عرض دائمة وصالة عرض موقتة وحديقة خارجية. وتقوم قصته على إرث الشيخ زايد، المؤسس الذي تحول قصة نجاح وعزيمة، وتضيء قيمه كل صالة من صالات العرض. 
الهندسة الفريدة للمتحف تضم خمسة هياكل فولاذية شاهقة على شكل جناح الصقر وهو يطير. ويستخدم تصميمه تقنيات استدامة مختلفة، ومن أهمها الهياكل الفولاذية الخمسة التي تعمل كأبراجٍ حرارية لسحب الهواء الساخن من خلال كسوة الهياكل الزجاجية، وفي الطقس المثالي تفتح الألواح الزجاجية تلقائياً، لتعمل بمبادئ برج الرياح التقليدي (البرجيل) نفسها لتدوير الهواء في المبنى.

متحف التاريخ الطبيعي- أبوظبي
يستعد متحف التاريخ الطبيعي في أبوظبي لأخذ زواره في رحلة عبر الزمن لـ 13.8 مليار عام، ما يتيح التعرُّف إلى نشأة الكون ومستقبل الأرض، والتي تتضمن منظوراً من شأنه تحفيز التفكير في آفاق المستقبل المستدام. ومن أبرز مقتنيات المتحف الجديد هيكل التيرانوصور الشهير "ستان" البالغ عمره 67 مليون عام. وسينضم إلى "ستان" نيزك "مورشيسون" الذي أتاح للعلماء اكتشاف معلومات جديدة عن بدايات تكوّن النظام الشمسي.

غوغنهايم أبوظبي
صمم المهندس المعماري العالمي فرانك جيري متحف غوغنهايم أبوظبي الذي سيمتدّ على مساحة إجمالية تبلغ 80,000 متر مربع، ليكون الأكبر بين متاحف غوغنهايم في العالم، وسيشكل المكان الأبرز في المنطقة للأعمال الفنية والثقافية العالمية الحديثة والمعاصرة، ويطمح إلى ربط الثقافات وإلهام الناس من خلال الاحتفاء بالفن منذ حقبة 1960حتى اليوم.

بين العائلة الابراهيمية

وسط صخب التاريخ، حيز استثنائي للتأمل والتلاقي. بيت العائلة الابراهيمية، المجمع الذي يضم مسجداً وكنيسة وكنيساً ومركزاً تعليمياً، مستوحى  تصميمه من وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك التي وقعها البابا فرنسيس وشيخ الأزهر  أحمد الطيب خلال الزيارة  التاريخية للحبر الأعطم للإمارات في  شباط (فبراير).

لكل مبنى طابعه الخاص وهندسته الخاصة التي تعكس قيم الاديان السموية الثلاثة. 

يقول محمد خليفة المبارك: "ليست منطقة السعديات مجرد روائع هندسية تضم متاحف، وإنما أماكن للتعليم والبحث والتلاقي، تجمع الناس من كل أنحاء العالم في بيئة تفاعلية وداعمة، ذات سردية آسرة. هذا هو إرثنا الآن".