نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
قدر الحرب - تكنو بلس, اليوم الجمعة 11 أبريل 2025 05:56 صباحاً
في البداية، ما كان مقدراً أبداً أن أتذكر الجزء الذي عشته من الحرب، أو بكلام أبلغ، الجزء الذي شاركت في صنعه. فأنا ممن عاشوا في الحرب الأهلية منذ يومها الأول، من دون قصد أو نية، وممن شبّوا على تقاسيمها الدموية، وعلى محطاتها القاتلة، وعلى أسمائها: سبت أسود، فحرب الـ"ميّة يوم"، وحرب السنتين، ومجزرة الدامور، والصفرا، وزحلة مربى الأسود، وتوحيد البندقية، وخلدة مثلث الصمود... إلى ما هنالك من مصطلحات، ربما تملأ قاموساً، وتزيد، وممن ساقهم القدر إلى "مثوى الحياة الأخير" في مكان ما بين بيروتين.
ما كان مقدراً أن أعود بالذاكرة إلى أيام كنا نهرب فيها من مقاعد الدراسة إلى "مجاهل الأسواق". هكذا كانت في نظري، غابة من الأنقاض التي غطاها عشب يميل لونه إلى البرتقالي قليلاً... "ربما كان الدم الذي يسال على جانبي خط التماس هو السبب"، أو هكذا اعتقدنا يوماً. كانت مجاهل الأسواق، وامتداد خط النار إلى ساحة الشهداء والصيفي والمرفأ، جرداء بلا حياء. فهنا، حيث أقف اليوم في غرفة الأخبار بـ"النهار"، المطلة على تمثال الشهداء المرمم جسداً، المكمم روحاً، لا حياء في القتل.
ما كان مقدراً أن أستعيد كوابيس جهدت كي أستيقظ منها للمرة الأخيرة. واليوم، حين أنظر إلى هذا القلم في يدي، أشعر بعجز ما كنت لأشعر به لو في يدي بندقية. فأن تكون مسلحاً، قابضاً على بُرودة "السبطانة" بكف وخمسة أصابع، يعني أن تظن نفسك جباراً عنيداً. وهي اليد نفسها، بعد سنوات طويلة من حرب ما أظنها انتهت، التي تخيفني اعترافاتها ذات يوم حساب.
حين أسير من "النهار" إلى بيتي القريب، صبحاً ومساءً، أرى ذكرياتي شريطاً أمامي عيني. إنه القدر الذي يُعيدني دائماً إلى مكان أهرب منه، ومما علق في بالي من فظائعه، ودمويته، ومن الأرواح التي أظنها تهيم فيه، وستبقى، حتى يحاسب كلٌّ منا على ما جنت يداه. أسير، فلا أنظر يمنةً ولا يسرةً، فربما تنتظرني روح أحدهم هنا، مختبئة تحت بقايا خيالٍ لشعار عن الحرية أو العروبة أو فلسطين أو الهوية أو الوجود. كان "الخط الأخضر" حدود بيروت التي نعرفها، مسيجةً بالدم، وبرائحة البارود، وبخطايا تحتاج كل واحدة منها إلى ألف كرسي اعتراف.
كثيرون مؤمنون بأن الحرب "ما خلصت". خمسون عاماً من الحرب، وما تعلمنا بعد درساً
واحداً. ما تعلمنا أن لكل منا روحاً واحدة، وكمية قليلة جداً من الدم. وما تعلمنا أن لا قضية تستحق أن أموت لها، وأن لا نعش جاهزاً بعد ليردّ الميت إلى أهله، وأن من كان ليحمل نعشي ذات يوم، لم يكن ليذرف دمعةً واحدةً، فقد صيّرتنا هذه الحرب صوراً جميلة لبشاعتنا المخيفة، بلا قلب. وما أظن أحداً يتوق لرؤية هذه الصور بعدُ.
0 تعليق