عن "حكايات عزيزة" وموجيتوس" لمنير عتيبة... ابتكار الفقرة الروائية في معمار سردي مختلف - تكنو بلس

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
عن "حكايات عزيزة" وموجيتوس" لمنير عتيبة... ابتكار الفقرة الروائية في معمار سردي مختلف - تكنو بلس, اليوم السبت 5 أبريل 2025 08:51 صباحاً

المتابع لسرد الكاتب المصري منير عتيبة في الرواية والقصة القصيرة والقصيرة جداً يلاحظ اهتمامه الشديد بفكرتي التعامل مع الزمن السردي، وموقع الراوي من السرد. وفي روايته الأحدث "حكايات عزيزة"، الصادرة عن "بيت الحكمة للاستثمارات الثقافية" في القاهرة، يطوّر عتيبة هذا الاهتمام إلى ما يعدّ ابتكاراً سردياً في التعامل مع هذين المعطيين. 

 

وفي روايته "موجيتوس" يقدّم عتيبة مشهد غرق السفينة بمَن عليها من الأبطال العشرين بنفس سرديّ واحد يطمح إلى أن "يشاهد" القارئ عملية الغرق، وأفكار الشخصيات ومشاعرها، في الوقت ذاته، رغم العائق اللغوي المتمثل بأن كتابة الجملة نفسها تعني مرور زمن تراتبيّ، استطاع في هذا المشهد أن يخرج فكرته عن "التزامن السردي" على الورق، لكي يطورها بعد ذلك في روايته "نساء المحمودية"، التي يعتبر الزمن بطلها الأول، فهي تتناول فترة زمنية تصل إلى مئتي عام، ويقسمها الكاتب إلى 12 فصلًا بعدد شهور السنة؛ وفي كل فصل أربعة رواة بعدد فصول السنة. ويمكن قراءة الرواية بهذا التسلسل كما هي مطبوعة، ويمكن أن يقرأها قارئ ما بشكل مختلف، فيقرأ الفصول المتصلة بإحدى الشخصيات متتابعة، ثم ينتقل إلى الفصول المتصلة بالشخصية التالية، وهكذا.
كذلك لعب عتيبة بفكرة الزمن في عدد كبير من قصصه القصيرة، لعلّ من أبرزها قصته المعنونة "قصة أخرى" في مجموعته "بقعة دم على شجرة"، إذ يقدم أحداث القصة ذاتها مرتين؛ مرة تحت عنوان فرعي "القصة" ومرة تحت عنوان فرعي آخر "القصة مرة أخرى"، لكنه يسرع وتيرة الزمن في المرة الأولى، ويبطئ الزمن في المرة الثانية، فتكون النتيجة المدهشة مشاعر مختلفة، وأفكاراً مختلفة، ونتائج حدثية مختلفة؛ كل هذا نتج فقط من التحكّم في التسارع الزمني للقصة، وهو يتحكّم بهذا التسارع الزمني من خلال الراوي نفسه في المرتين؛ المتكلم المشارك.
أما في رواية "حكايات عزيزة" فينطلق الكاتب من فكرة أعمق عن الزمن بتساؤل يستنبطه القارئ من النص، ولا يلقيه عليه الكاتب بشكل مباشر؛ هل الزمن الكورنولوجي الخطيّ الذي نعيشه من ماض إلى حاضر إلى مستقبل هو زمن حقيقي؟ هل هذا هو الشكل الأصلي والطبيعي للزمن أم أنها حيلة احتالها الإنسان ليفهم بها حياته عبر الزمن؟ وما هو شكل الزمن أو طبيعته بالنسبة إلى راوٍ يقف خارج الزمان العادي الذي نعيش في فقاعته؟
والإجابة التي تقترحها رواية عتيبة "حكايات عزيزة" أن الزمن لمن هو خارج عالمنا هو نقطة واحدة ثابتة لا تعرف الوحدات الثلاث المعتادة لدينا "الماضي، الحاضر، المستقبل"؛ وبالتالي فإن ما يبدو لنا كأنه تتابع زمني، يبدو لهذا المراقب من خارج الزمن نقطة واحدة ثابتة متصلة.
وتبقى المعضلة لدى الكاتب: كيف يمكن أن يعبر عن هذه الفكرة الخاصة بالزمن، باستخدام ذلك الراوي المفارق لنا، عبر لغة هي بطبيعتها، كأي لغة خطية، مجرد كتابة كلمات متتابعة فيها تستغرق زمناً متتابعاً لا زمناً ثابتاً؟
أعتقد أن الكاتب استفاد من قدراته في كتابة القصة القصيرة، التي أعلن مراراً أنها أحب أشكال الكتابة السردية إليه، وحصل فيها على جائزة اتحاد كتاب مصر، كما استفاد من قدراته في كتابة القصة القصيرة جداً التي يعتبر من أعلامها في مصر والعالم العربي، وحصل عنها على جائزة الدولة التشجيعية، لكي يصل إلى حل لمعضلته السردية في التعامل مع الزمن الروائي باعتباره نقطة ثابتة من وجهة نظر راوٍ مفارق، فابتكر فكرة "الفقرة الروائية"، وجربها في روايته "حكايات عزيزة".
لقد جرب عتيبة هذه الفكرة في عدد من قصصه القصيرة، لعل أهمها قصته المنشورة في متوالية "مرج الكحل" بعنوان "تسع خرزات زرقاء لأجل القادم" التي حصلت على جائزة مجلة "هاي" الأميركية، وترجمتها الدكتورة لبنى إسماعيل إلى اللغة الإنكليزية. وفي هذه القصة المكوّنة من تسع فقرات يمكن للقارئ أن يقرأ أيّ فقرة قبل غيرها من دون التزام بترتيب الكاتب لها، مع الأخذ بالاعتبار أن الترتيب المنشورة به القصة هو أفضل شكل لقراءتها، وهو ما حرص الكاتب على أن يتجاوزه في "حكايات عزيزة".
ولعل القصيدة العربية الكلاسيكية كانت ملهمة للكاتب أيضاً في تنفيذ فكرته، إذ تعتمد هذه القصيدة على وحدة البيت الشعري؛ وبالتالي يستطيع القارئ إعادة ترتيبها وفق ما يشاء من دون الإخلال بمعناها، وهو ما تحققه فكرة "الفقرة الروائية" في "حكايات عزيزة" التي يستطيع القارئ أن يقرأها بداية من أي فقرة فيها، وأن يعيد ترتيب فقراتها وفق ما يشاء، من دون أن يخلّ ذلك بمبناها العام، ولا بمتعتها القرائية، ومن دون أن يكون الترتيب الذي اختاره الكاتب لنشرها هو الأفضل على الإطلاق، بل يمكن أن يكون ترتيب قارئ آخر لفقرات الرواية أفضل له مما اختاره الكاتب. وبالتالي ففقرات الرواية تقدم من خلال وجهة نظر راو مفارق للزمن الكورنولوجي، أي يرى كل الأحداث في الوقت ذاته؛ وبذا تكون التقنية التي استخدمها عتيبة محققة لفكرته عن الزمن هنا، إذ تصبح لكل الفقرات الأهمية الزمنية نفسها، وهي على المسافة الزمنية ذاتها من الراوي، لأنها كلّها تحدث في نقطة زمنية واحدة لا بتتابع زمنيّ؛ من وجهة نظر راوي "حكايات عزيزة".
من المثير أن نتابع تطور فكرة الزمن السردي وتعامل رواة عتيبة المختلفين معه قصصياً وروائياً، لنتأكد من أن كل كاتب لديه أفكار معينة يدور حولها، يطورها ويعمقها، ليصل إلى غايته منها، وهي الفهم العميق لها، وإيجاد الكيفية التي سيعبر بها عنها سردياً؛ وهو ما نجح عتيبة في تحقيقه في "حكايات عزيزة" بشكل مثير للدهشة التي تجعل المتابع يتساءل عما يمكن أن يقدمه في عمل قادم حول فكرة الزمن، أم أنه وصل إلى ما يرضيه روائياً بشكل نهائي في تعامله مع هذه الفكرة، إذ يضع في روايته سبعين عاماً هي حياة عزيزة بطلة الرواية وأسرتها الصغيرة، وعائلتها الكبيرة، وقريتها، وكل ما حدث من تغيرات على المستوى الجغرافي والاقتصادي والاجتماعي والنفسي؛ يضع كلّ ذلك في رواية قصيرة تشكّل كلّ فقرة من فقراتها بناءً مستقلًا قابلًا للقراءة بذاته، ويتعاضد مع باقي الأبنية/ الفقرات بما يشكّل المعمار الروائي المرن.
يمكن أن نلاحظ في "روايات عزيزة" كيف قدّم عتيبة شخصيّاته، وتطوّرها، وعلاقاتها المتشابكة، وانعكاس تغيرات الواقع عليها، وتحولاتها النفسية العميقة المسكوت عن معظمها، وما أصاب البيئة الريفية في الريف السكندري من تغير وصل إلى درجة التجريف... إلخ. لكن الإنجاز الأهم لهذه الرواية في ما أرى هو إنجازها التقني الذي حقق به الكاتب فكرته عن الزمن الثابت، فقدمها في عمل يضج بالحركة والتغير، مستفيداً من تجاربه السابقة التي كانت بمثابة تجارب معملية تجريبية لتقديم تحفته الروائية.
وقد وعى الناشر (بيت الحكمة) اللعبة الروائية التي يقدّمها عتيبة في "حكايات عزيزة"، فابتكر هو أيضاً فكرة الغلاف المزدوج، فكان الغلاف الخلفيّ للرواية هو نفسه الغلاف الأمامي مع اختلاف اللون الأزرق من الأمام والبنيّ من الخلف، ليوحي للقارئ منذ البداية بأن هذه رواية تستطيع أن تدخل إليها من أيّ باب شئت. ونلاحظ أن الغلاف في الأمام والخلف هو لون واحد يبدو قديماً من دون أيّ زيادات ليعبّر عن فكرة النقطة الزمنية الثابتة القديمة.
"حكايات عزيزة" رواية جديرة بالقراءة على مستويات عدة، تتيح للقارئ متعة فائقة وهو يلعب مع الرواية وبها.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق