نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
من سينقذ المتوسط؟ الجواب عند أمير موناكو - تكنو بلس, اليوم الخميس 3 أبريل 2025 07:41 صباحاً
انها الساعة السابعة مساء في نيس. الطيّارة المقبلة من اسطنبول تهبط على المدرج بنعومة لافتة. الجو غائم. هذه المرة الأولى أحط في المدينة الساحلية الفرنسية لا للانتقال إلى كانّ بل إلى إمارة موناكو، حيث تنتظرني خمسة أيام، من الأحد إلى الخميس، تتيح لي الاحتكاك بالبحر الأبيض المتوسط وكلّ ما يتعلّق بالأزرق الكبير ثقافةً وتاريخاً و"حالة صحيّة". الهم الأكبر: كيفية وسبل حمايته، ما يستدعي تدخّلاً سريعاً على أعلى المستويات. هذه الأيام الخمسة ستكون حاسمة لأدرك مرة جديدة كم أننا، نحن الذين نعيش على ضفاف حوض المتوسط، لا ننتمي اليه بدرجة الإصرار والإخلاص نفسها التي عند سكّان الساحل الأوروبي. لا نعرف قيمته ولا نستحقّه.
طوال الأيام الخمسة، ستُعقَد نشاطات عدة من تنظيم متحف العلوم البحرية في موناكو الذي أسّسه ألبر الأول، أمير موناكو (1848 -1922)، والد جد الأمير الحالي ألبر الثاني. تدور الزيارة كلها حول حماية البحار والمحيطات، إنطلاقاً من المتوسط الذي لموناكو اطلالة مدهشة عليه، كما حال مدن وقرى وبلدات الكوت دازور الفرنسية الساحلية المحيطة بالإمارة، التي كان للاعلام الذي غطّى الحدث فرصة الاقامة فيها لبضعة أيام. وكانت "النهار" الصحيفة العربية الورقية الوحيدة التي شاركت في هذا الحدث لتعود بخلاصة ما جرى، مع بعض المشاهدات من وحي ثقافة المتوسط وضرورة صونها واعادة الاعتبار اليها.
متحف العلوم البحرية.
جاء الضيوف المختارين بعناية، من كلّ أنحاء العالم، للمناقشة بلغة تغلب عليها البراغماتية، سبل انقاذ المحيطات التي يزداد وضعها سوءاً، عاماً بعد عام، لا سيما في ظلّ الاحتباس الحراري. بعضهم من المتوسط وبعضهم من مسافات أبعد. الإحساس طاغٍ على الذين يعون التحديات التي نواجهها، بأننا كلّنا معنيون بالتبدّلات المناخية.
وُزِّع الحدث المتوسطي على لحظتين أساسيتين. جرت الأولى في متحف العلوم البحرية في موناكو، غداة وصولنا وعُرفت بالدورة السادسة عشرة من "مبادرة موناكو الزرقاء" التي أطلقها الأمير ألبر الثاني قبل 15 عاماً. أما اللحظة الثانية، فجرت بعد ثلاثة أيام من الأولى، دائماً في المتحف، ونتج منها الحدث الأهم: معرض "متوسط 2050" الذي يستمر خمس سنوات. جهات عدة نظّمت الحدث، من بينها مؤسسة الأمير، ومعهد العلوم البحرية في موناكو، مع دعم من فرنسا وكوستاريكا. حرص الأمير على حضور الحدثين شخصياً، وألقى خطاباً داعماً والتقى الناس والتُقطت له الصور مع الحضور. عندما دخل الصالة لا أحد صفّق له، فقط وقف له الناس احتراماً للبروتوكول، وبعد القاء كلمة، انضم إلى طاولة المدعوين. بدا على درجة عالية من الثقة بمشروعه البيئي الذي يُعتبر أحد راوده.

ألبر الثاني مع الضيوف خلال 'مبادرة موناكو الزرقاء'.
في الحدث الأول، "مبادرة موناكو الزرقاء"، الذي يأتي قبل شهرين ونصف الشهر من انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة الثالث للبحار في نيس، عُقدت لقاءات عدة على مدار يوم كامل جمعت كبار الفاعلين الدوليين في شؤون المحيطات لمناقشة التحدّيات العالمية لإدارة وحماية هذه المحيطات بشكل ملموس وعملي واستشرافي. ويعوّل المنظّمون على ان التوصيات التي ستصدر عن هذه اللقاءات ستساهم في تعزيز نقاشات "منتدى الاقتصاد الأزرق والتمويل" الذي سيُقام في حزيران المقبل في موناكو، قبل أيام من مؤتمر نيس، وسيهدف إلى تسريع التحول نحو اقتصاد أزرق مستدام.
من المسائل التي نوقشت في "مبادرة موناكو الزرقاء": كيف يمكن تحقيق الانتقال من "الاقتصاد البحري" إلى "الاقتصاد الأزرق المتجدّد" وتغيير نطاق العمل لحماية النظم البيئية البحرية؟ من خلال أمثلة قطاعية مثل النقل البحري والسياحة والطاقة المتجدّدة والبنية التحتية واستغلال الموارد الحيّة.

بوابة المعرض الذي يحملنا إلى رحلة بحرية.
أقيمت جلسات عدة حول شروط الانتقال الناجح والأدوار الأساسية للتعاون الدولي وتعبئة القطاع المالي. وأيضاً كيف يُمكن العلوم أن توجَه بشكل أفضل صانعي القرار المؤسسيين والاقتصاديين للحفاظ على النظم البيئية البحرية، وإدارتها بشكل مستدام، واستعادتها. هذا كله مع الحرص على تحليل شروط الحوار بين المجتمع العلمي وصانعي القرار السياسي والاقتصادي والمؤسسي، من أجل استراتيجيات فعّالة لإدارة وحماية واستعادة النظم البيئية البحرية في السواحل والمياه العميقة. فالإنسان هو الملّوث الأول للبحر، وعلى القائمين أن يجدوا حلولاً أقل ضرراً بالبيئة، بدءاً من السياحة البحرية وصولاً إلى استغلال الثروة الحيوانية.
وهكذا تناوب ناطقون من أهل الاختصاص والعلم على طرح أبرز المحاور التي تشكّل منها المؤتمر الذي طرح قضايا جادة يصعب على مَن هم خارج الاختصاص فهم كلّ تفاصيلها وخلفياتها وظروفها، ذلك ان هناك تداخلاً بين العلمي والثقافي والبيئي والسياسي. المداخلات ألقاها مؤسّسو جمعيات وباحثون ومموّلون ورؤساء هيئات علمية وتكنولوجية، من جميع أنحاء العالم، من كوريا وكينيا وسويسرا والولايات المتحدة وجنوب أفريقيا وتشيلي والسنغال وهولندا وأبو ظبي، وكثر من الذين جاؤوا من موناكو وفرنسا. الهدف من هذا كله هو تجميع المال لدعم المشاريع البيئية المرتبطة بالمحيطات. نعم، الماء أيضاً في حاجة إلى تمويل، علماً ان الأهداف في هذا المجال لم تتحقّق بعد، اذ تشير الأرقام إلى ان من أصل 175 مليار دولار تحتاجها المحيطات سنوياً، توّفرت فقط 25. وإمارة موناكو الذي يقطن فيها نحو 40 ألف مواطن (ربعهم يحملون جنسية الدولة)، تتكفّل الدفاع عن المحيطات والبحور، ويعود هذا الالتزام إلى عهد الأمير ألبر الأول.

الفرصة الأخيرة لحماية متوسطنا.
صباح الأربعاء، وقفتُ عند بوابة المتحف، وهو اليوم الفاصل بين الحدثين (ذاك المتعلّق بالتمويل وذاك الذي على صلة بمعرض "متوسط 2050")، فتأملتُ طويلاً معالم هذه التحفة المعمارية حيث المتحف الذي ترأسه عالم البحار الفرنسي الشهير جاك إيف كوستو لسنوات طويلة، وكان "مرتعنا" طوال الأيام الخمسة. ماري، المسؤولة فيه، ستشرح لي ولزميلة مواصفات المبنى الذي أصبح أحد أهم الأماكن التي يقصدها السيّاح في موناكو.
تقول: "هذا المبنى مرتبط بتاريخ الأمير ألبر الأول واستكشافه المحيطات. طوال ثلاثين عاماً، أجرى 28 حملة علمية، امتدت من جمهورية الرأس الأخضر إلى أنتركتيكا. وعاد بالكثير من الاكتشافات. في العام 1889، كان قدّم بعض العينات عن اكتشافاته في الجناح الخاص بموناكو في أحد المعارض، فأثار ذلك الاهتمام. كان علم المحيطات علماً حديثاً في تلك الفترة، فأراد ان يكتشفه أكبر عدد من الناس، لذلك خطر في باله إنشاء هذا المتحف. كان الأمير شغوفاً بالعلم، ولكن احترم الفنّ أيضاً. رأى في العلوم والفنون ركيزة أي حضارة“.

زائران خلال تقديم المعرض غداة الافتتاح.
يقع مبنى المتحف ذو الطراز النيو باروكي المطل على البحر في البلدة القديمة حيث العديد من السيّاح الأميركيين وغيرهم يلتقطون الصور ويعبّرون عن اعجابهم بالمناظر الطبيعية. نرى على واجهته العديد من الزخرفات والرسوم المستوحاة من الثقافة المتوسطية والحياة البحرية. تفاصيل كثيرة وملهمة تزين جدرانه من الناحيتين، تلك التي تطل على الحديقة وتلك التي تحدق في البحر. شعار الإمارة، "بعون الله"، لا يغيب عنه أيضاً. أما التيراس، حيث مقهى ومطعم، فيوفّر اطلالة رهيبة على المتوسط بكلّ بهائه وروعته، كأنك في عناق مع الأساطير والحكايات. تقول ماري ان تشييد المتحف الذي يزوره حالياً نحو 700 ألف شخص سنوياً، انطلق في العام 1899 لينتهي في العام 1910، أي 11 عاماً فقط، ما يبدو قليلاً، مقارنةً بعظمة البناء وهيبته. فهناك أعمدة ضخمة جداً لا تقلّ ضخامةً عن الهياكل الرومانية.
في الداخل، طوابق عدة، في واحد منها عينات وقطع أثرية تعود إلى مطلع القرن الماضي: دبّ قطبي محنّط، جمجمة الفظ مع أنيابه، مجوهرات، خزانات تضم عناصر زخرفية مصنوعة من الأصداف والشعاب المرجانية، أدوات ملاحية بحرية قديمة، أوراق محفوظة داخل إطار، وغيرها وغيرها. هناك أيضاً زاوية مخصّصة لهوس ألبر الأول بالعلوم، فيها تفاصيل دقيقة تحرص ماري على شرحها لنا بعناية. على مقربة منها، هيكل ليخت كبير يتوسّط الجناح المخصص للمختبر البحري المُعاد تجسيده، حيث كان الأمير يشرّح الحيوانات البحرية مستخرجاً منها الأعضاء لأهداف بحثية، ثم يحفظ معظم العينات في الكحول.

غواصة من مطلع القرن الماضي.
في طبقة أخرى، نجد الأكواريوم الضخم حيث مئات الأنواع من الأسماك النادرة التي يحفظها المتحف، وقد قمنا بجولة في أروقته، لكن للأسف الحديث عنها يحتاج وحده إلى مقالة كاملة، وقد لا يهم سوى المتخصّصين، مع ان المسؤولين عن هذا الجناح لم يبخلوا علينا في الشرح طولاً وعرضاً.
اللحظة الثانية والأهم كانت يوم الخميس: افتتاح معرض "متوسط 2050" (في حضور الأمير ألبر)، الذي يعتبره القائمون عليه أشبه بكتابة فصل جديد من إلتزام الإمارة حماية البحر. يسقطنا المعرض الانغماسي افتراضياً في العام 2050، لنرى كيف سيكون البحر بعد ربع قرن من الآن. يأتي التصميم لإيقاظ الوعي وإلهام الزائر، وذلك من خلال استخدام العديد من المؤثّرات البصرية والصوتية والضوئية. يمتد المعرض على أكثر من 1000 متر مربّع، وهو مهيأ ليقلّ أناساً من مختلف الأعمار إلى رحلة زمنية ومكانية عبر المتوسط، ماضياً حاضراً، والأهم… مستقبلاً!

من مقتنيات المتحف.
تجوّلتُ طوال أكثر من ساعة ونصف الساعة في أرجاء المعرض، وتلقّيته كنوع من إنذار! فهذه فرصتنا الأخيرة لحماية متوسطنا الذي صاغ حضارات الذين عاشوا على ضفافه. هذا المتوسط الذي يضم أكثر من 17 ألف نوع بحري، ما يعادل نحو 7.5 في المئة من الحيوانات و18 في المئة من النباتات في العالم، ممّا يجعله بقعة فريدة للتنوع البيولوجي المهدد والآيل إلى الاختفاء. كلّ ما نشاهده في المعرض يخاطب الضمير، لكنه يدغدغ أيضاً الحواس، فيجعلنا ندرك أهمية هذه القضايا وضرورة البحث عن حلول للحفاظ على هذا التراث الحضاري الذي لا يُقدَّر بثمن. أما الهدف المعلن، الذي لا يزال بعيداً، فيأتي بلغة الأرقام ويحمل شعار “30 × 30”، أي التوصّل إلى حماية 30 في المئة من المحيطات في حلول العام 2030.

داخل الأكواريوم.
0 تعليق