كنغ البشارات... صدمة الهوية وحنين الأرض - تكنو بلس

منوعات 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
كنغ البشارات... صدمة الهوية وحنين الأرض - تكنو بلس, اليوم الأحد 18 مايو 2025 10:45 صباحاً

 في صباح يوم جمعةٍ مشمس، وبينما كان معظم الناس يستعدون لعطلتهم الأسبوعية، اقترح أولادي أن نخرج إلى أحد المتنزهات القريبة من بلدتنا، ناعور. بدا اليوم عاديًا، لكنه كان يحمل في طيّاته تجربةً ستوقظ فيّ شعورًا عميقًا تجاه الأرض، وتجاه الانتماء، وتجاه ما فقدناه ونحن نعتقد أننا لا نزال نملكه.

ركبنا السيارة، وضحكات أولادي تملأ الأجواء. كنا نظن أننا سنقضي ساعات هادئة بين الخضرة والنسيم، لكنّ شيئًا ما في الأفق جذب انتباهي. أصواتٌ عالية كانت تأتي من الجهة المقابلة للمتنزه، أصواتٌ لا تشبه صوت الطيور ولا ضجيج الأطفال. كانت أقرب إلى صيحات وضحكات تنبعث من بعيد، وكأن هناك مهرجانًا يدور في حضن الجبل.

سألت زوجي عن مصدر تلك الأصوات، فأخبرني: "يقال إن هناك سيركًا عالميًا يُقام في منطقة قريبة، يُدعى كنغ البشارات."

لم أتمالك نفسي من الحماسة. الفكرة وحدها كانت كفيلة بأن تسرقني من الواقع. قررت أن أذهب، حتى لو بمفردي، علّي أرى بعيني هذا الحدث الغريب الذي اقتحم هدوء منطقتنا.

بدأتُ أسير نحو الأصوات، وكان الطريق صاعدًا قليلاً، لكنني لم أشعر بالتعب. الفضول يحرّكني، واللهفة تسبق خطواتي. اقتربت من المكان، فبدأت تظهر لي ملامح احتفال ضخم، خيامٌ ملونة، أضواء ساطعة، وناس يدخلون ويخرجون.

توقفت أمام البوابة، ورأيت لافتة ضخمة مكتوب عليها: "كنغ البشارات – السيرك العالمي".

وقفت في طابور التذاكر، وقلبي يدق بشدة. وعندما وصلت إلى الشباك، سألت: "كم سعر التذكرة؟"

جاءني الرد كصفعة باردة: "55 دينارًا."

صمتُّ، لم أدرِ ما أقول.

هل يُعقل أن أدفع هذا المبلغ فقط لأدخل؟ أنا التي أعيش بجانب هذا الجبل؟ أنا التي أعدّ هذا المكان جزءًا من ذاكرتي ومن هوية منطقتي؟

نظرت حولي، أبحث عن وجه مألوف، عن ملامح قريبة تشبهنا. لكنني رأيت فقط وجوهًا غريبة، وملابسًا فاضحة لا تشبه ثقافتنا ولا تنتمي إلى بيئتنا. كانوا يدخلون بكل ثقة، كأن المال لا يعني لهم شيئًا، وكأنهم في أرضهم.

في تلك اللحظة، شعرت بثقل داخلي، بحزنٍ لم أختبره من قبل.

تذكّرت حديث جدّي عندما كنا صغارًا، وهو يشير إلى الجبل ويقول: "هذا المكان كان لنا... أرض أجدادكم. انتُزع منا ولم يعد لنا فيه حق."

آنذاك، كنت أظن أن حديثه من الماضي، وأنه نوعٌ من الحنين الذي يحمله الكبار. لكنني اليوم، أمام هذا المشهد، شعرت أن كلامه حقيقة أكبر من أن تُنسى.

نُزع المكان منا، ليس فقط جغرافيًا، بل رمزيًا، نفسيًا، ومعنويًا.

كيف تحوّلنا إلى غرباء؟ كيف أصبح علينا أن ندفع ثمنًا باهظًا لندخل أرضًا كانت يومًا لنا؟ لماذا يشعر الآخرون بالانتماء في أرضنا، بينما نقف نحن على الأبواب، نراقب بصمت؟

عدت أدراجي، لم أُكمل الطريق. لم أدخل.

ليس لأن المال وحده عائق، بل لأن الشعور بالاغتراب كان أقسى من أي ثمن.

كنت أنظر إلى الأرض التي أسير عليها وأفكر: من نحن الآن؟ وهل ما زلنا نملك شيئًا من تلك الجذور التي كان يفاخر بها جدي؟

هل نستحقها بعد أن سكتنا؟ بعد أن اعتدنا أن نُقصى ونكتفي بالمراقبة من بعيد؟

في ذلك اليوم، أدركت أن ما فقدناه ليس مكانًا فقط، بل كرامة، وحق، وصوت.

ورغم أن السيرك كان صاخبًا، إلا أن الصمت في قلبي كان أعلى.

صمتٌ يقول لي:

"لن يعيد لنا شيء ما سُلب، ما لم ننهض بأنفسنا، ما لم نطالب، ما لم نُعِد تعريفنا لأنفسنا أمام هذا الزمن الذي لا ينتظر أحدًا."


قدمنا لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى هذا المقال : كنغ البشارات... صدمة الهوية وحنين الأرض - تكنو بلس, اليوم الأحد 18 مايو 2025 10:45 صباحاً

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق