ليسوا أبناء الحياة حتّى بل ينحتون في صخورها - تكنو بلس

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
ليسوا أبناء الحياة حتّى بل ينحتون في صخورها - تكنو بلس, اليوم السبت 3 مايو 2025 07:57 صباحاً

منال عبد الأحد

 

 

 أشعر بأن أسوأ النصوص التي يكتبها المرء هي تلك التي ينسجها بقناعات مسبقة، وقد تكون أفضل نصوصه على الإطلاق هي تلك التي يحاول من خلالها اختبار أفكاره وبوتقتها أو تكوينها على ورق أو شاشة حتى. ولا أعرف هنا إن كانت العلاقة بالورق تتسم بالعاطفية أكثر لدى غالبية من هم في مثل سنّي ما يؤدي بدوره إلى عقلانية أقل.

 

لا أبتغي من هذا المقال تحليل الحالات النفسية المصاحبة لمخاض الكتابة لأنني لم أتعمق بذلك ولم أناقشه مع متخصصين حتى، ولأنني بأي حال ساورتني أخيراً، وبإيحاء من شخص أعرفه، شكوك بأن علم النفس بحد ذاته قد لا يكون تجريبياً نوعاً ما، وهنا لا بدّ من أن أقول إنني لا أعرف مدى دقة وبديهية ذلك ولم تراودني تساؤلات من هذا القبيل في السابق، أعترف دون خجل، حيث كنت أميل إلى التصديق بأن لكل شيء تفسيراً ومنطقاً حتى لا تبدو الأمور لي خارجة عن السيطرة على الأرجح.

 

مؤخراً، أي منذ سنوات قليلة، شهدت نقلة أراها نوعية إلى حين كتابة هذه السطور، ليس في قناعاتي الأديولوجية السياسية أو المسيّسة وحسب، فأنا إذ أؤمن بحقنا المطلق في تبديل آرائنا لا بل أجد في ذلك دليلاً ثابتاً على النضج والمصداقية والشجاعة، كنت قد تخطيت ذلك بالكامل، وبصورة جذرية، منذ قرابة الـ15 إلى الـ20 عاماً، أعجز عن تحديد التوقيت بدقة متناهية نظراً لتداخل مكوّنات الطبيعة البشرية ومقوّماتها، وإنما أتحدّث هنا عن آلية تشكّل القناعات والخلفية الفكرية وربما الشعورية في هذا السياق، وعلى سبيل التهكم أقول إنني بت في حيرة من أمري إن كان الحب يولد في القلوب أو العقول أو لربما هو لا يولد أصلًا إنما هو تجسيد لأفكار معلّبة ومشاعر غير مكتملة وتجارب مؤلمة وأخرى مفرحة، علماً بأنني من خلال منطقي الخاص، وهذا رأي محض شخصي قابل للتبدّل حتى، أرى أننا كائنات انفعالية إلى حدّ أننا قد نتذكّر الكثير من الأحداث المؤلمة والقليل من اللحظات السعيدة التي اختبرناها في حيواتنا.

 

ظننت أنني في قرابة منتصف العشرينيات من عمري عندما تخلّيت تدريجياً عن "قناعات" أيديولوجية ورثتها عن أهلي ومحيطي، وذلك في سياق تبدّل ناجم عن جهد محض ذاتي استغرق سنوات وتطلّب الكثير من الجهد، كنت في الواقع قد حققت نوعاً من الاستقلالية المنشودة، أحسست أنني بتت مرتاحة أكثر مع نفسي بعد أن عشت طائراً مكسور الجناحين أو بجناحين اصطناعيين. لكنني أدركت بعدها أنني فرحت أكثر مما ينبغي بإنجاز، نوعي، إنما قد لا يحتسب في ما ينتظر هويتي الشخصية من مخاض عسير. ذلك كوني أيقنت أنني في الحقيقة قد جاهرت بعدم رغبتي

في أن أتبنى قناعات أهلي السياسية والأيديولوجية وحسب، وبأنني لا أؤمن بوجود قناعات لا تتبدّل في عالم لا بدّ أن يكون دوماً في طور النموّ المستمر.

 

لم أدرك يومها أنني إن قلت لا لأفكار سياسة وقناعات يجدها أهلي راسخة في عقليهما أو قلبيهما، كنت فقط قد أحرزت خطوات فقط في مسيرة تحقيق ذاتي، ذلك لأن الأفكار الأديولوجية المسلّم بها والتي يتبناها الطفل في مرحلة مبكرة جدًّا من حياته تشلّ بالكامل قدرته على سبر أغوار الحياة بمفرده ليبحث فيها عما يشبهه ويحاكي أحاسيسه ومنطقه الخاص، فيتدرّب على استعارة السياق المنطقي لآخرين كائناً من كانوا، أحد الأبوين أو كلاهما أعني ويخزّن ذلك في لاوعيه، للأسف. فمن غير المنصف على الإطلاق لا بل ذلك بمثابة جريمة بحق العقل البشري أو الوجدان الإنساني أن يحب الطفل قائداً في سن لا يكون فيها قادراً على فهم أفكاره ولا مدى مصداقيته وتصالحه معها، علماً بأنني بريئة أصلاً، بقناعاتي الحالية، من اعتبار أن هناك قائداً يجب أن يقترن اسمه بهذه التسمية حتى بعد مماته لأنني أؤمن بتطوّر الحياة وتبدّل معطياتها، وإن كان قد ترك نتاجاً فكرياً موضع تقدير ومحطّ إعجاب، مع العلم أن تطوير أي نتاج فكري بشري، على أقل تقدير، حاجة ملحّة.

 

وللأسف، فإن الموضوع لا ينتهي برفض الأيديولوجيا السياسية تلك أو عدم تبنيها، لا بل إنه على الأرجح قد يبدأ هنا، حيث إن تبني هذه الأفكار يولّد نوعاً من الاتّكال الفكري، اللاواعي خصوصاً، على الآخرين والتبعية العاطفية لهم، لأننا لا نتبنى قناعات سياسية أو أيديولوجية وحسب، بل نتعداها إلى استنساخ مقاربة حياتية لأتفه الأمور وأكثرها تعقيداً أي أننا ننقل عن ذوينا سياق تشكّل أفكارهم وتتطوّر أحاسيسهم حتى.

 

ولهذا على صعيد شخصي وجدت أنني لم أكن في غربتي متصالحة مع غيابي عن وطني الأم ولست في عودتي مرتاحة وراضية عن حياتي فيه، لا لأنني أشعر بمظلومية إن أُبعدت عنه وبقساوة العيش فيه مع ما يتخبط به من أزمات وحسب، بل لأنني عشت سنين طويلة في غربة عن ذاتي وعن سياق خاص في تشكّل أفكاري واعتمدت نسقاً آخر لا يشبهني من الداخل. وإنني وإن كنت أتبدل وتبدلت بعزم وإصرار أشهد لنفسي بهما نحو تحرري من سياقات فكرية وشعورية لا ناقة لي فيها ولا جمل، تنبّهت لأهمية ذلك في سياق تشكّل آلياتي المنطقية الخاصة فقط عندما تراجعت في آخر لحظة، عقب عودتي الأخيرة، عن المغادرة من جديد لسبب لم أفهمه، وأدركت بعد ذلك، وبفعل أحداث كثيرة تتالت في حياتي أن الغربة عن الوطن لم تكن المشكلة، بل كانت غربتي عن نفسي وصراعاً داخلياً عشته نتيجة محاولتي أن أكون نفسي، والتصدّي لموروثاتي الشعورية والمنطقية اللاواعية الأخرى وذلك خارج السياق السياسي الأديولوجي أكرر، على اعتبار أنني تخطيت الشق هذا منذ قرابة العقدين أو أقل بقليل، كما أسلفت أعلاه.  

 

وقد شكّل تراكم أحداث خاصة، أليمة بالغالب، مع الأسف، نوعاً من المحفّز لقفزة نوعية في مجابهة السياقات الموروثة ومجاهرتي الكاملة بحقي في أن تكون لي مقاربتي الخاصة في أتفه الأمور وأن يكون لي هوائي وسمائي وبحري الآخر المختلف، ما يعني أنني لا أغضب بالطريقة نفسها التي يقارب فيها الآخرون غضبهم ولا أتنفس حتى الهواء بالسجية عينها، وأننا مختلفون في كل شيء حتى في نظرتنا لاتفاقنا وهذا أمر بديهي.

 

أكتب هذه السطور وأنا صراحة في حيرة من أمري غير مدركة إن كنت سأغادر بيروت أو سأكرهها وأنا أسائل نفسي حتى في مدى مواطنيتي وتمسكي بهوية لم أخترها أصلاً، وهذا برأيي صحي جداً في سبيل التحرر من أعباء تربية أجدها متفانية إنما ممعنة في الحب إلى درجة خانقة. لن يسعني هنا أن أنكر محبة أهلي لي وتضحياتهم الجمة من أجلي، علماً بأنني بتُّ أقدر ذلك أكثر بأشواط من السابق، لأنني أصبحت قادرة على استيعاب ما بذلاه بمنطقي الخاص المتحرر من أي سياق فكري أو شعوري موروث عنهما كما وعلى سجية نبضات قلبي الخاصة ووتيرة خفقانه.

 

وأشدّد أنني لا أقول كل ما تقدّم لألوم أهلي على طريقة تربيتي، وإن انتقدتها أعلاه، غير أنني لا أنكر فضلهم، وإن من خلال إخفاقاتهم، في مخاض فكري وشعوري لربما عسير إنما أسهم في تعبيد طريقي نحو تصالح مع الذات ورضا وقدرة على الحب ما كنت لأتسم بها لولا العثرات الناتجة عن منظومة اجتماعية تحاول تحصين ذاتها من زوال ما وتصارع للبقاء.

 

شكرًا لكما من أعماق قلبي...

 

لم أخطط للإنجاب، ولم يعد لدي ما يكفي من الوقت لذلك، إلا أنني وللأمانة ما كنت لأنقل أي سياق فكري أو شعوري لأبنائي، فلتعذراني على صراحة فظة على الأرجح أعرف أنها لن تؤلمكما بل سترسم ابتسامة محبة على ثغر كل منكما، أو آمل ذلك.

 

أدرك تماماً أن البعض قد لا يجد في ما قلته تحرراً بل جنوح نحو تضخيم الأمور ومخالفة السائد، حيث إن كلًّ منا يتأثّر بمحيطه وأفكاره ومسلّماته، وهذا "بديهي"، وأخصّ هنا الإيديولوجيين منهم، إلا أنني أعي أن نظرة موضوعية وشجاعة في ذواتهم ستجعلهم يتحسسون الكثير من الرواسب والموروثات التي تعشش فيها وهي لا تشبههم البتة، وأنهم مسلّمون في الغالب بأمور لم يقرؤوها بما يكفي أو يحللوها في سياقهم الفكري والشعوري الخاص على أقل تقدير.

     
إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق