نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
جنوب لبنان... حربٌ لم تنتهِ ولكنّ حبّ الحياة أقوى - تكنو بلس, اليوم الاثنين 28 أبريل 2025 05:59 مساءً
الأسبوع الماضي، قررت أنا وعدد من الأصدقاء الذهاب في جولة على عدد من قرى الجنوب اللبناني التي دمّرها القصف الإسرائيلي جزئياً أو بشكل شبه كامل. بعض الأحياء يقف فيها منزل أو منزلان بالكثير، غير صالحين للسكن، وأحياء أخرى بلا معالم.
لم تكن هذه زيارتي الأولى لجنوب لبنان منذ إعلان وقف إطلاق النار بين إسرائيل و"حزب الله". في المرّة الأولى، قصدت قريتي فقط. ولشدّة رغبتي في الوصول، لم أنتبه حتى لما خلّفه العدوان الإسرائيلي في القرى المحيطة، أو على الأصحّ حاولت أن لا أنتبه.
المشهد العام يفوق الوصف والاستيعاب. بعض القرى لا شيء فيها يوحي بأن حياةً ما كانت فيها. لم يترك الجيش الإسرائيلي حجراً على حجر، غصناً على آخر، ولم يسلم من بطشه أيّ شيء.
عدسة
اختلف المشوار إلى الجنوب، أقلّه على الصعيد الشخصي، هذا العام عن الأعوام الماضية، أي قبل الحرب الهمجية الأخيرة، من حيث الترتيبات. حرصت هذه المرّة قبل الانطلاق على أن لا يبقى هاتفي على وضعية الصامت، على عكس مرات سابقة تعمّدت فيها ترك مسافة بيني وبين كلّ ما يثير التوتّر.
وتأكّدت من تشغيل خدمة الأخبار العاجلة لأبقى على اطلاع على آخر المستجدّات، وكان شرطي الوحيد العودة باكراً، وقبل حلول الظلام.
في الطريق إلى الجنوب، زحمة سير تُشبه زحمة عطلة نهاية الأسبوع في معظم المناطق اللبنانية، لا بل ربما أكثر. إلى أين يذهب كل هؤلاء؟ هل جميعهم سلمت منازلهم من القصف؟ ألا يشعرون بالخوف من أصوات المسيّرات التي تهمس في الأذن "أنا أراكم"؟ وماذا عن الطائرات الحربيّة التي لا تفارق سماء المنطقة؟
تصطف السيارات أمام الأفران، خبز، مناقيش، كرواسون، كعك، وأمام محالّ لديها ماكينات قهوة. المشهد نفسه أمام محالّ الحلويات والخضار والفاكهة. تبتسم، يُفرحك هذا الإصرار وتتساءل بدهشة: هل اعتاد الجنوبيون على لعنة الحرب والنهوض من بعدها؟ من أين أتوا بكلّ هذا التحدّي والإرادة؟ كيف لشخص خسر فرداً من عائلته، أو ربما أكثر، وخسر منزله ورزقه، أن يملك كلّ هذا الأمل في البدء مجدداً؟
في زحمة كلّ هذه الأفكار، يصل إشعار إلى هاتفي "مسيّرة إسرائيليّة استهدفت سيارة في بلدة كوثرية السياد". كان يفصل بيننا وبين الشارع المستهدف شارع فقط. لم نسمع صوت الانفجار، وما رأيناه فقط هو جزء من دخان السيارة المحترقة. توقفنا إلى جانب الطريق قليلاً. "كمّلوا طريقكن يا ولادي شكلن استهدفوا حدن"، يقول صاحب عربة فول أخضر.
أكملنا طريقنا كغيرنا، وكان صوت الطائرات الحربية قد أصبح أكثر وضوحاً. بعدها ربما بساعة أو أكثر، وصل إشعار آخر إلى هاتفي "غارات إسرائيلية على مرتفعات إقليم التفاح وبلدة أرنون"، وبعدها "غارة من مسيّرة إسرائيلية على منزل في بلدة حولا"، وأيضاً "اشتعال آلية للجيش اللبناني محمّلة بذخائر على طريق عام بريقع – القصيبة".
عند دخولنا إلى عدد من القرى، قرية بعد أخرى، الركام سيّد المشهد، جرافات، شوادر، صور لعناصر من "حزب الله" قضوا في المعارك الأخيرة، صور لنساء وأطفال ورجال قتلتهم إسرائيل، وردة نبتت بين حجارة أحد المنازل، جلسة "نرجيلة" وشاي فوق الركام، لافتات لشعارات دينية، صور للأمين العام الأسبق لـ"حزب الله"، السيد حسن نصرالله، سيّارات بعضها محترق، والبعض الآخر تهاوت عليه ذكريات منزل، بيوت جاهزة تفوح منها رائحة الطعام، راجمات صواريخ مهجورة، والكثير الكثير من المشاهد التي تفوق الوصف والاستيعاب.
رغم الخوف ورغم رائحة الموت، شيء ما يمنعك من المغادرة، وربّما هو الشيء نفسه الذي أعاد الأهالي إلى هنا. تلك الحجارة التي تكاد تنطق لتروي فداحة ما حصل، وتلك العيون المليئة بالتحدّي والإصرار على البقاء في الأرض والعودة إلى أحياء ومنازل لا أثر لمعظمها؛ هي حياة فقدت كلّ مقوّمات الحياة، كيف؟ لا أعلم. ولكن الأكيد أن الجنوبيين الذين ما زالوا يكافحون للبقاء من جرّاء حرب لم تنته بعد، ولو حاولوا اجتياز المأساة كما لو أن الحرب لم تكن، يبعثون برسالة مفادها أن في هذه الأرض ما يستحق المحاولة دائماً، وأن حب الحياة والتمسّك بها – وإن تركته إسرائيل الخيار الوحيد لهم – سيبقى السلاح الأقوى الذي لا مجال للنقاش فيه.
0 تعليق