"دعوة القديس متّى"... لوحة كارافاجيو المفضلة عند البابا فرنسيس - تكنو بلس

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
"دعوة القديس متّى"... لوحة كارافاجيو المفضلة عند البابا فرنسيس - تكنو بلس, اليوم الأحد 27 أبريل 2025 01:23 مساءً

كثيراً ما تحدّث البابا فرنسيس عن الفن والموسيقى والأدب والسينما، باعتبارها أدوات للتبشير، وتحفظ كرامة الإنسان. كان يرى في الفن "حقيقة حيّة"، يعارض بها "ثقافة الاستهلاك والرمي" التي تفرضها الأسواق العالمية، مؤكداً أنّ الإبداع الإنساني يحمل بحدّ ذاته بعداً روحياً يناهض تسليع الإنسان وتهميشه.

بعد انتخابه حبراً أعظم، بات فرنسيس- أول بابا يسوعي- الحارس الأعلى لأعظم مجموعة فنية عرفها التاريخ: كنيسة السيستين، رمز عصر النهضة التي شهدت انتخابه. ورغم أنّ اسم ميكيلانجيلو النهضوي يقترن بالفاتيكان، غير أنّ البابا عبّر صراحة عن إعجابه بأعمال كارافاجيو، قائلاً إنّ "لوحاته تخاطبه". فقد جذبته الواقعية في لوحات رائد الفن الباروكي، بل وحتى طابعها الشعبي الذي خلا من التأنّق المفرط، حتى أنّه اختار لإكسبو 2025 (أوساكا، اليابان) لوحة كارافاجيو الضخمة التي تصوّر "إنزال المسيح إلى القبر" محور جناح الفاتيكان.

"دعوة القديس متّى"
عندما كان لا يزال رئيس أساقفة بوينس آيرس، وكان يزور روما، كان يفضل الإقامة قرب كنيسة "سان لويجي دي فرانشيسي". وقد قال لاحقاً خلال كلمة ألقاها في بازيليك القديس بطرس، وردّدها غير مرّة: "في كلّ مرة زرت روما، كنت أحرص على التوجّه لمشاهدة لوحة واحدة بعينها"، مشيراً إلى لوحة "دعوة القديس متّى" (1599–1600) المعروضة داخل الكنيسة.

 

'دعوة القديس متى' لكارافاجيو. (ملكية عامة)

 

كانت تلك وليدة أول مهمّة رسمية لكارافاجيو، وعُرضت هناك منذ عام 1600. يومها، كان الرسام الشاب الآتي من ميلانو بحثاً عن فرصة في عالم الفن في روما. رسم مشهده الإنجيلي في غرفة ضيقة ومتداعية، وأسبغت شدّة التباين بين الضوء والظلام بُعداً درامياً على لوحته. اختفى معه المنظور الخطي (linear perspective) الذي ميّز عصر النهضة العليا، ودُفعت الشخصيات إلى مقدّمة المشهد بشكل كامل.

كان متّى، رسول المسيح وواضع الإنجيل الذي يحمل اسمه، جابياً للضرائب في ظلّ الحكم الروماني، يعيش حياة مترفة. وقد صوّره كارافاجيو لا بملابس تقليدية، بل بقبعة مخملية وسترة من قماش بنيّ محترق، مثلما كان يرتدي معاصروه في روما. على يساره، جلس زميلان منهمكان في شؤون المال، يرتديان فراءً وحريراً فاخرين؛ وعلى يمينه، صديقان شابان يعتمران قبعات مزينة بالريش، وقد انتبها للتو إلى شخص دخل الغرفة.

أما الداخل من الجهة اليمنى، فيرتدي ملابس بسيطة متواضعة، ويغطي الظل عينيه وجبينه، ما يصعب تمييزه للوهلة الأولى. وقد اختار كارافاجيو أن يصوّر المسيح واقفاً خلف بطرس، في أظلم ركن، بعيداً عن أنظار المتفرجين.

ومع ذلك، هناك، عند الحدود بين الضوء المنبعث من نافذة غير مرئية وظلمة الغرفة، يرفع يسوع يده اليمنى، ويومئ نحو متّى. يشير العشّار إلى صدره بإصبعه مذهولاً، بينما مدّ يده الأخرى، التي تتجاوز كتف زميله، ليمسك بالمال الملقى على الطاولة.

 

تقنية الـ'كياروسكورو' الخاصة بكارافاجيو. (تفصيل)

تقنية الـ'كياروسكورو' الخاصة بكارافاجيو. (تفصيل)

 

قال البابا فرنسيس بعد انتخابه إنّ إيماءة متّى هي ما لفت انتباهه. فقد رأى فيها شيئاً منه شخصياً. "إنه يتمسّك بنقوده وكأنه يقول: لا! هذا المال لي! هنا، هذا أنا: خاطئ، لكن الرب ألقى عليّ نظره"، أضاف البابا، "وهذا ما قلته عندما سألوني إن كنت أقبل انتخابي حَبراً أعظم".

تُعد لوحة "دعوة القديس متّى" إحدى التحف الفنية المحورية في فترة الباروك، إذ تمثل تحوّلاً ثورياً في تاريخ الرسم الغربي. وقد كُلّف كارافاجيو بتنفيذها لتزيين كابيلا كونتاريلي في كنيسة سان لويجي دي فرانشزي في روما، فجسّد فيها اللحظة التحويلية التي يدعو فيها المسيح متّى إلى التلمذة. إن الاستخدام الجذري الذي قدمه كارافاجيو لتقنية التباين الحاد بين النور والظلمة (كِيَاروسكورُو/Chiaroscuro)، وتصويره الطبيعي للشخصيات، أعادت تعريف اللغة البصرية للفن الديني على مشارف القرن السابع عشر.

التركيب والتحليل الشكلي
عند النظرة الأولى، تقدم اللوحة مشهداً واقعياً يومياً: خمسة رجال مجتمعون حول طاولة، مستغرقون في عدّ النقود، قبل أن تقاطعهم فجأةًَ لحظةُ دخول المسيح والقديس بطرس. يوجّه التكوين الأفقي للرسم حركة عين المشاهد من اليسار إلى اليمين، لتتوَّج بإيماءة المسيح الخفية والقوية عبر يده الممدودة. يُحكِم كارافاجيو تجميع الشخصيات ضمن مجموعة ضيقة، خالقاً مشهداً مسرحياً داخل فضاء مغلق، يضيئه شعاع ضوء درامي واحد يخترق المشهد بشكل قطري.

 

المسيح والقديس بطرس على يمين اللوحة. (تفصيل)

المسيح والقديس بطرس على يمين اللوحة. (تفصيل)

 

أما الشخصيات فترتدي أزياء رومانية معاصرة تعود إلى القرن السادس عشر، بدلاً من الملابس الكتابية التقليدية، وهي سمة بارزة في أسلوب كارافاجيو الذي يبرز طابع الرسالة الإنجيلية كأمر خالد وراهن في آنٍ معاً. وقد امتدّت يد المسيح الممتدة بأسلوب يحاكي مباشرة يد آدم في لوحة خلق آدم لميكيلانجيلو في سقف كنيسة السيستين، ما يعزز دلالة لحظة الاصطفاء الإلهي.

يتجاوز تناول كارافاجيو الثوري للضوء حدود الواقعية البحتة؛ إذ يتحول إلى أداة لاهوتية بحدّ ذاته. فالشعاع الساطع الذي يقطع اللوحة لا يتطابق مع مصدر ضوء مرئي داخل المشهد، بل يمثل إضاءةً إلهية- حضوراً ميتافيزيقياً- يعلن دخول المسيح ويوقظ روح متّى، فلا يعزله الضوء عن محيطه فحسب، بل يبرز كذلك صراعه الداخلي: لحظة التردد والتحول الآتي.

وتقنية "كياروسكورو" لا تُبرز الشخصيات فحسب، بل تُمسرح هذه الدراما الروحية. فالضوء الإلهي لا يُفرض على المشهد، بل يتسلل إلى الظلال ليبحث عن متّى، مجسّداً فكرة النعمة الإلهية التي تغزو ظلمة الخطيئة.

الواقعية النفسية
في صميم ابتكار كارافاجيو الفني يكمن التزامه الواقعية النفسية (psychological realism)، إذ تتنوع تعابير الشخصيات وحركاتها بين الغفلة والصدمة والتأمل الذاتي، مما يعكس طيفاً واسعاً من ردود الفعل الإنسانية تجاه الدعوة الإلهية. ومتّى نفسه- الذي يُعرف تقليدياً في لوحة كارافاجيو بالرجل ذي اللحية الذي يشير إلى نفسه بدهشة- يجسّد هذا التوتر، وتجسّد إشارته السؤال الجوهري في مسار الإيمان: "أنا؟"، وهي الاستجابة البشرية للنعمة غير المتوقعة.

 

متّى لحظة لقاء المسيح. (تفصيل)

متّى لحظة لقاء المسيح. (تفصيل)

 

ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّه، على عكس التصويرات السابقة للمواضيع الدينية التي كانت تركز على الجمال المثالي والانفصال عن العالم الأرضي، يقدّم كارافاجيو قديسيه والخطأة بشراً ترابيّين، إنسانيّين إلى أبعد حدّ، تملؤهم العيوب. متّى مثلاً، في هذه اللحظة ليس قديساً؛ بل لا يزال رجلاً عالقاً في شباك الارتباطات الدنيوية، في لحظة دعوته إلى السموّ.

السياق التاريخي واللاهوتي
ينبغي أيضاً فهم اللوحة ضمن سياق حركة الإصلاح المضادّ. فبعد مجمع ترنت (1545–1563)، سعت الكنيسة الكاثوليكية إلى تجديد الفن الديني وتحفيزه ليكون وسيلة لإلهام الإيمان بين المؤمنين. وقد جاءت لوحة "دعوة القديس متّى" استجابةً لهذه الضرورات بشكل قوي ومباشر.

برفضه للمثالية واعتماده على الواقعية الحادّة، لبّى كارافاجيو نداء مجمع ترنت الذي دعا إلى إنتاج أعمال فنية واضحة ومؤثرة عاطفياً وسليمة عقائدياً. وتحاكي توبة متّى وتحوّله من جابي ضرائب إلى رسول رغبة الكنيسة في استعادة الخاطئين إلى رحابها، مظهراً قوة الرحمة الإلهية وإمكانية الخلاص حتى لمن غرقوا في الفساد الدنيوي.

ناقش الباحثون هوية القديس متّى ضمن المشهد. وقد اقترحت بعض القراءات الأولى أنه قد يكون الشاب المنكفئ على الطاولة. غير أنّ الرأي السائد اليوم يعتبر أن متى هو الرجل الملتحي الذي يشير إلى نفسه متسائلاً، إذ تجسّد أصبعه المتسائلة وعيناه المتسعتان لحظة الصدمة والضياع. وهذا الغموض يثري العمق اللاهوتي للوحة: إذ تتحول الدعوة من حدث تاريخي إلى دعوة مفتوحة لكلّ مشاهد ليتماهى مع لحظة الاصطفاء الإلهي واكتشاف الذات.

تختصر لوحة "دعوة القديس متّى" جوهر عبقرية كارافاجيو: مزيج من الواقعية الحادّة، والبصيرة الروحية العميقة، والتفنّن بالدراما البصرية. ومن خلال تثبيت السرد المقدس في أرضية الواقع الملموس والمليء بالعيوب، غيّر كارافاجيو بعمق مسار الفن الغربي، جاعلاً المقدّس ملموساً من دون أن ينتقص من غموضه الروحي. وبذلك، لا تقتصر لوحة كارافاجيو على تصوير دعوة قديس، بل تصوغ دراما الصراع الأبدي بين الدنيوي والإلهي، بين التردد والإيمان، بين الظلمة والنور، وفي ذلك ما تماهى معه البابا فرنسيس.

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق