نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
"صلاة القلق" الفائزة بـ"البوكر العربية": التخييل يحرر الواقع من الزيف - تكنو بلس, اليوم الأحد 27 أبريل 2025 12:11 مساءً
في روايته "صلاة القلق" الفائزة بـ"الجائزة العالمية للرواية العربية" في دورتها الثامنة عشرة في حفل أقيم في أبوظبي الخميس 24 نيسان/أبريل، يراهن الكاتب المصري محمد سمير ندا على التخييل الإبداعي في المقام الأول، وعلى كل مستويات تأسيس النص ومعالجته وتشكيله.
في عمله الروائي الثالث الصادر عن "منشورات ميسكلياني" التونسية في ثلاثمئة وستين صفحة بعد روايتيه السابقتين "مملكة مليكة" (2016) و"بوح الجدران" (2021)، يقترح محمد سمير ندا (47 عاماً) إمكان إيجاد عالم موازٍ مفتوح، مكتفٍ بذاته، لا يتخاصم على نحو كلي مع المعروف والثابت من نسيج الواقع الفعلي، ولكنه يحرره بالضرورة من زيفه، ويجرده من أوهامه وخزعبلاته ومساحيقه المضللة المخادعة.
هذا العالم الفني الموازي، الكائن على ضفاف الحياة وليس بعيداً عن حركتها، تنسلخ فيه الأحداث والشخصيات والأمكنة والأزمنة من قاموسيتها المفروضة، هذه القاموسية الفجة المعدّة سلفاً بفعل قوى تسلطية تحتكر وحدها توجيه البشر وغسل عقولهم والسيطرة على حواسهم، وذلك عبر أساليب الترهيب وصناعة الرعب، وتمرير الرسائل الأحادية التلقينية، التي تبثها ليل نهار وسائل الإعلام الرسمية.
الإيهام والمراوغة
يعيد محمد سمير ندا في روايته "صلاة القلق"، التي جرى تتويجها من بين مئة وأربع وعشرين رواية ترشحت للفوز بـ"البوكر العربية" هذا العام، رسم خرائط الجغرافيا على الأرض، وترسيم إحداثيات التاريخ ووقائعه وأبطاله وفق منظوره الشخصي الخاص، الذي لا ينازعه فيه أحد كروائي معنيّ بالابتكار الذاتي، وليس بالمراقبة الميكانيكية والتسجيل التوثيقي المحايد.
ورغم أن "صلاة القلق" يمكن أن تكون منتمية بشكل ما إلى الديستوبيا أو أدبيات المدينة الفاسدة، بكل ما تنضح به هذه المساحة الافتراضية من شرور وفساد ومرارة وفوضى وخراب وتدمير ومرض، وآدميين يتجردون من إنسانيتهم ليصيروا مسوخاً مشوهين بدنيّاً ونفسيّاً، فإن مؤلفها لا يتخلى نهائيّاً عن آلية الإيهام بالتماسّ مع الواقع.
يأتي ذلك، رغبة منه في الإبقاء على احتمالية وجود تقاطع ما في نصه المراوغ بين الخيالي الصرف والحقيقي الملموس. يقول في مستهل روايته، التي أهداها إلى جموع الصامتين الذين شهدوا على كل تاريخٍ لم يُكتب بعد: "جرت هذه الوقائع في نجع المناسي، والأحداث قد تكون مستمرة حتى كتابة هذه السطور".
هكذا، بذكاء لافت، يتمكن محمد سمير ندا، الذي أعاد " البوكر العربية" إلى الحيازة المصرية بعد ستة عشر عاماً من الغياب، من طرق الأبواب كلها في الوقت نفسه. فمن جهة أولى، يزرع تجربته الروائية كاملة في تربة الفانتازيا الآمنة من سهام التصيد السطحية وغير الواعية التي تخلط بين دور الأديب ودور المؤرخ، وربما تتطرف في مساءلتها الأديب وفق اعتبارات أخرى، سياسية وإيديولوجية وعقائدية وغيرها.
ومن جهة ثانية، فإن الروائي المحنك يعلن أيضاً فرضية الدوس، المتعمد أو غير المتعمد، على ألغام الواقع والتاريخ، من أجل تفجير هذه الألغام بقوة مباغتة، ومن ثم إثارة الجدل الخلاق بشأنها، وذلك في سياق المراجعة الفنية الجمالية وحدها بطبيعة الحال، بعيداً من السياقات الخارجية المقحمة.
أحداث متجاوزة
تحت هذه المظلة، تتدفق أحداث رواية "صلاة القلق"، وتتشابك العلاقات وتتعقد الصراعات بين شخوصها القلائل الذين لا يتجاوزون أصابع اليدين، في فمدة زمنية محددة. هذه المدة، تنحصر بين واقعتين عُظميين؛ أولاهما: هزيمة الخامس من حزيران/يونيو عام 1967، وثانيتهما: حدوث انفجار هائل غامض لجسم مجهول عام 1977، فسّره البعض بسقوط نيزك أو اشتعال شهاب، ووصفه آخرون بسقوط القمر الاصطناعي الذي تحدث عنه الرئيس جمال عبد الناصر في تجربة إطلاقه الأولى.
'صلاة القلق' لمحمد سمير ندا. (ميسكلياني)
أما المكان الذي تكالبت عليه الكوارث الخالصة والأضرار المطلقة في هذه السنوات العشر الكابوسية، من دون أي بارقة أمل، فهو "نجع المناسي"، ذلك المكان القروي النائي، "المنسيّ"، المهمّش، المعزول في صعيد مصر، كأنما تتبرأ منه الدولة رغم الأهوال التي تجري فيه "النجع بأكمله غائب عن خرائط الدولة الرسمية، بينما قوافل التجّار والغجر تمر بالنجع من دون أن تلتزم الخرائط التي تُنكر وجودنا".
تنطلق الأحداث، التي تتجاوز مكانها وزمانها بدلالاتها المتعمقة المتشعبة، من منصة الانفجار الكوني الغامض، حيث يسود القلق والخوف ويتفشى المرض في النجع البائس الذي يصير مثل سجن ضيق أو صندوق أسود مفزع.
كما تتحول رؤوس البشر من الفلاحين والحرفيين والصنايعية والطبقات الشعبية الفقيرة (النجار، النحّال، الكلاف، النساج، الداية/القابلة، الغزية/الراقصة، الخ) إلى رؤوس سلاحف "شيئاً فشيئاً، بدا على الناس ارتضاء العيش برؤوس السلاحف. فأصبحَ أقلّ ضوء يزعجهم، وأبسط صوت يوتّرهم. لقد أخذوا من السلاحف مظهرها، وخمولها، لكنهم لم يحظوا بما تحظى به من حماية وخصوصية. وبمرور الوقت، عاث في عقولهم وباء القلق".
في هذا المجتمع، الذي يهيمن عليه الطغاة والمستبدّون وأصحاب المصالح، ويعاني فيه المقهورون الذين أجبروا على إرسال أبنائهم إلى الحرب، تتوالد الخرافات والفزّاعات والمرويات الغيبية، ويجد الدجالون والمشعوذون والسحرة لهم مكاناً، كما يزداد انتشار وباء القلق بشكل سريع للغاية.
هذا الانتشار يدفع الشيخ أيوب المنسي، من أبناء النجع، إلى ابتداع صلاة لها مناسكها الخاصة، تسمى "صلاة القلق"، في محاولة منه لوراثة إحدى كرامات أبيه، الذي كان من الأولياء. ويسعى الشيخ أيوب من خلال هذه الصلاة إلى إيجاد حل للأزمة، بعيداً من نفوذ خليل الخوجة، الممثل الرسمي ﻟنجع المناسي، وبمنأى أيضاً عن الأطباء الذين ترسلهم الحكومة للتحقيق بشأن الوباء.
سقوط الأقنعة
من جانب آخر، تتوالى سرديات شخصيات الرواية من الذكور والإناث، واحداً تلو الآخر، بشأن تعاملهم مع الأحداث المتعاقبة على أرض النجع، ومع بعضهم بعضاً، ومع رموز السلطة في النجع المحكوم بالحديد والنار. ومع سرد كل واحد منهم وجهة نظره بلغة ذات طبيعة شعرية، تتكشف سمات المؤامرة وتتساقط الأقنعة وتنفضح الأكاذيب التي يحيون تحت سمائها وفوق أرضها جميعاً طوال هذه السنوات من الظلم والعبودية والوجع والحيرة والضياع.
مما يتضح للجميع، على سبيل المثال، أن هزيمة نكراء مؤكدة قد حدثت في حزيران عام 1967، بعكس ما يروّج له النظام وما يدّعيه صنّاع الرأي العام (صحيفة "صوت الحرب" الموجّهة، ذات الصفحة الواحدة) بشأن تحقق نصر عظيم على العدو في الشهر ذاته "انتصاراتنا تتواصل، وها نحن على شفا تحرير فلسطين".
وإذا كان بعض الشخصيات قد سُلب ذات يوم حق النطق بقطع لسانه، فإنه في وقت لاحق يتمكن من كتابة الحقيقة بيده، كابن خليل الخوجة المقصوص اللسان، الذي يخط في أوراقه عشرات المفاجآت الصادمة.
وفي هذه الأوراق (شأن صفحات الرواية نفسها) يمتزج الواقع والخيال، وتتقارب الحدود بين نجع المناسي ومستعمرة الجذام المصرية، التي شهدت حوادث دموية عنيفة إثر محاولة بعض المرضى الهرب عام 1977. وقد تناولت صحيفة "الأهرام" في 15نيسان 1977 تلك الواقعة المأسوية التي راح ضحيتها خمسة وعشرون قتيلاً وعشرات المصابين في تقرير إخباري بعنوان "تمرد في مستعمرة للجذام".
خلخلة إيجابية
لقد نجحت رواية "صلاة القلق" في إحداث الخلخلة المطلوبة، فكريّاً وجماليّاً وتخييليّاً، بطرحها رؤى مغايرة وغير مطروقة من قبل، وأصواتاً تعددية متحاورة ومتجاورة، ومزجها المرن السلس بين الواقعي والأسطوري، والحقيقي والرمزي، باعتبار أن هناك صوراً شتى وصيغاً متنوعة لقراءة الوقائع وكتابة التاريخ وفهم الماضي والحاضر واستكشاف المستقبل.
ويبقى التشكك الشعبي الأكبر دائماً إزاء ما تتحمس السلطة لإثباته بالقوة الجبرية وتعميم الكراهية "راحت الكلمات المغمّسة بالكراهية تتناسل على جدران كل البيوت. كلّ ساعة، يكتشف واحد من الناس بعض العبارات؛ بعضها كُتب على صدر الدار، وبعضها خُطّ على حوائط جانبيّة أو خلفيّة. وهكذا أصبحت كلّ الدور موصومة بالطلاء الأسود ذاته، مُعنوَنة بكلمات اللعنة والتشفّي، بما فيها بيت خليل الخوجة، ودكّانه، والتمثال المكسور حذو داره، بل على جدران المسجد أيضاً.
0 تعليق