مصر بين التقشف المالي والضغوط الاجتماعية: البحث الصعب عن الاستقرار الاقتصادي - تكنو بلس

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
مصر بين التقشف المالي والضغوط الاجتماعية: البحث الصعب عن الاستقرار الاقتصادي - تكنو بلس, اليوم الثلاثاء 22 أبريل 2025 08:49 صباحاً

مع بداية عام 2024، أعلنت مصر رسميًا خروجها من أزمة صرف عنيفة. ورغم أن هذه الانفراجة أعادت تسليط الضوء على توازنات الحساب الخارجي، فإن المسألة المالية ظلت لفترة طويلة في المرتبة الثانية. ومع تجاوز هذه العاصفة، تواجه السلطات اليوم مساراً مقلقاً للديون يتعين تصحيحه، ما يتطلب قرارات مالية مؤلمة في سياق من التوترات الاجتماعية المتصاعدة. وقد أقرّ صندوق النقد الدولي نفسه، وللمرة الأولى، بـ"الكلفة الاجتماعية" للإصلاحات المالية المفروضة، داعياً إلى إدارة "حذرة" لعملية تنفيذها.

 

في نهاية آذار (مارس)، أقرّت الحكومة المصرية مشروع موازنة السنة المالية 2025/2026، والمزمع عرضها على البرلمان للموافقة. وجاء نشر هذا المشروع مباشرة بعد مصادقة مجلس إدارة صندوق النقد الدولي على المراجعة الرابعة لبرنامج الدعم، ما أتاح صرف شريحة تمويل بقيمة 1.2 مليار دولار.

ورغم أهمية هذه الخطوة، فإن المراجعة تأخرت ستة أشهر عن الجدول الزمني الأصلي، ما أثار تساؤلات وشكوكاً حول قدرة الحكومة على الالتزام بتعهداتها.

 

ورغم الإشارة إلى أسباب إدارية لتبرير هذا التأخير، كالرغبة في انتظار الاجتماعات السنوية للصندوق، يصعب تجاهل أن هذا التأجيل قد يعكس صعوبات في تنفيذ البرنامج. وقد أشار بيان الصندوق إلى "تقدم غير متكافئ" في الإصلاحات الهيكلية، مع تعديل طفيف للأهداف المالية، حيث تم خفض الفائض الأولي المستهدف لعام 2026 من 4.5% إلى 4% من الناتج المحلي الإجمالي، ما يؤكد عودة توازن المالية العامة إلى صلب النقاش.

 

أزمة صرف حجبت التحديات المالية

بدأت الأزمة في عام 2022 وتفاقمت بفعل الحرب في أوكرانيا وتأثيرها على واردات القمح، ما أغرق مصر في اضطرابات مالية تميزت بفقدان الثقة وتقلب شديد في سعر صرف الجنيه المصري. وقد ركّزت الأسواق آنذاك على احتياطيات النقد الأجنبي وقدرة البلاد على الوفاء بالتزاماتها الخارجية، فيما تراجعت التوازنات المالية إلى الخلفية.

 

ومع ذلك، نجحت الحكومة حتى ذلك الحين في كسب ثقة المقرضين، خصوصاً بفضل برنامج صندوق النقد لعام 2016، الذي تُوّج بخفض ملحوظ في العجز الأولي. بل إن مصر أعلنت عام 2023 عن عجز أقل من توقعات الصندوق (6% مقابل 7.8% متوقعة)، ما عزّز الانطباع الزائف بميزانية مستقرة رغم الأزمة الكامنة.

 

التضخم كخدعة مالية

في الواقع، ساهم التضخم المتسارع في خلق وهم التوازن المالي. فقد أدّى تلقائياً إلى زيادة إيرادات الدولة، لا سيما من خلال ضريبة القيمة المضافة التي تمثل نحو 35% من الإيرادات. وبما أن هذه الضريبة تتناسب مع الأسعار، فقد ارتفعت بنفس وتيرة التضخم، ما حمّل المستهلكين العبء الضريبي بغضّ النظر عن مستوى دخلهم.

 

وعلى صعيد النفقات، أتاح التضخم "تأثيراً بصرياً" مضللًا. إذ ظهرت الزيادات الاسمية في التحويلات الاجتماعية والأجور العامة على أنها سخية، في حين أنها، عند تعديلها وفقاً للتضخم، تراجعت فعلياً. وهكذا، ورغم الوعود الاجتماعية الظاهرة، انخفض الوزن الحقيقي لهذه البنود، ما ساعد على تحقيق تقشف مالي خفي.

 

تعديلات مالية بثمن اجتماعي باهظ

لكن خلف هذه الدينامية المضللة، تعرضت الميزانية لضغوط كبيرة. فقد تراجعت الإيرادات الضريبية كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي بمقدار 0.7 نقطة، وهو أداء دون الطموحات التي حددها صندوق النقد، والذي يستهدف زيادة قدرها نقطتان بحلول عام 2027.

 

كما ارتفعت كلفة دعم الطاقة، خصوصاً لصالح الشركة العامة للبترول (EGPC)، نتيجة تضخم التكاليف الدولارية. والأهم أن خدمة الدين تفاقمت بفعل خفض قيمة الجنيه، ما زاد من أعباء الفوائد الخارجية بالعملة المحلية. أما داخلياً، فقد أدّت أسعار الفائدة المرتفعة إلى نفس النتيجة.

 

وأمام هذه التحديات، لجأت السلطات إلى تقليص نفقات الاستثمار، وخفضت أجور الموظفين العموميين ( 1.1% من الناتج المحلي)، وقلّصت التحويلات الاجتماعية. وبذلك تم تنفيذ سياسة تقشف على حساب النفقات الإنتاجية وإعادة التوزيع، وهو توجه مقلق في بلد يواجه تحديات اجتماعية جسيمة.

 

تراجع الدعم التضخمي وتقلص الهوامش المالية

اليوم، تتغير المعطيات. فالتضخم الذي بلغ ذروته بدأ في التراجع بفضل "تأثير القاعدة" (أي أن زيادات الأسعار المسجلة عام 2023 لا تتكرر في 2024)، ما يبطّئ نمو الأسعار تلقائياً. وهو ما يُعدّ انفراجاً للأسر، لكنه يمثل تحدياً للميزانية.

 

إذ ان تراجع التضخم يحرم الدولة من أداتها الرئيسة للتقشف، حيث لم تعد الإيرادات تنمو بالقيمة الاسمية بنفس الوتيرة، في حين تبقى أسعار الفائدة مرتفعة. والنتيجة: عودة كلفة الدين، كنسبة من الناتج المحلي، إلى الارتفاع، في ما يعرف بـ"تأثير كرة الثلج"؛ أي عندما تتراكم الفوائد بسرعة أكبر من نمو الإيرادات، ما يصعّب احتواء الدين.

معضلة بين التوازن الخارجي واستدامة المالية العامة

يُجسد مسار الدين المصري صعوبة التوفيق بين الخيارات. فمنذ حزيران/يونيو 2022، ارتفعت نسبة الدين العام من 88.5% إلى 96% من الناتج المحلي. ويُعزى هذا الارتفاع إلى إعادة تقييم الدين الخارجي بعد خفض العملة، وكذلك إلى تراجع معدل النمو من 5% متوقعة إلى 3.3%.

 

وضعف النمو يحدّ من القدرة على كبح الدين، بينما تُثقِل أسعار الفائدة المرتفعة كاهل المالية العامة. صحيح أن هذه المعدلات تجذب رؤوس الأموال الأجنبية وتُسهم في استقرار ميزان المدفوعات، لكنها تزيد بشدة من كلفة خدمة الدين.

 

ويحثّ صندوق النقد على اعتماد سياسة نقدية موجهة نحو استهداف التضخم كشرط ضروري لاعتماد نظام صرف أكثر مرونة، لكن هذه المرحلة الانتقالية لا تزال جارية، ومن المحتمل أن تبقى أسعار الفائدة مرتفعة لفترة طويلة. وفي ظل هذا السياق، يبقى الفائض الأولي هو أداة التعديل الوحيدة الممكنة.

 

أهداف مالية طموحة لكن يصعب تحقيقها

إزاء هذا التعقيد، رفع الصندوق سقف طموحاته، مستهدفاً فائضاً أولياً قدره 5% من الناتج المحلي لعام 2026. وهو هدف ضخم يصعب تحقيقه خاصة في ظل بطء تنفيذ الموازنة حالياً.

 

فوفقاً لبيانات وزارة المالية، لم يتجاوز الفائض الأولي خلال الأشهر الخمسة الأولى من السنة المالية 2024 (تموز/يوليو – تشرين الثاني/نوفمبر) سوى 1% من الناتج، بعيداً عن الهدف المرحلي البالغ 3.5%. كما بقي تنفيذ الاستثمارات العامة محدوداً للغاية.

 

وقد وعدت الحكومة باتخاذ إجراءات تصحيحية في النصف الثاني من العام، لكنها تواجه تحديات جديدة، أبرزها تراجع عائدات قناة السويس – وهي مصدر رئيسي للإيرادات – نتيجة الهجمات في البحر الأحمر، مع العلم أن القناة تمثل نحو 7% من الإيرادات العامة (بيانات عام 2023).

 

أما خفض الفائض الأولي المستهدف لعام 2025 من 4.5% إلى 4% فيعكس هذه الصعوبات. أما الهدف البالغ 5% لعام 2026 فيبدو صعب المنال دون تخفيضات كبيرة تمس الأجور، والدعم، والتحويلات الاجتماعية، والاستثمار، ما يعني جهداً هائلاً لشعب أنهكته سنوات من الأزمة.


تعديل مالي تحت ضغط شديد

تقف مصر اليوم عند مفترق طرق. صحيح أن الخروج من أزمة الصرف أعاد بعض الثقة مؤقتاً، إلا أن الأسس المالية ما زالت هشة. ولم يعد التضخم قادراً على إخفاء واقع متمثل في دين متصاعد، ونمو ضعيف، وهوامش مالية آخذة في التقلص.

وبين ضرورة الاستقرار الاقتصادي الكلي، ومتطلبات صندوق النقد، والاعتبارات الاجتماعية، تضطر السلطات إلى الملاحة في ظروف ضبابية إقليمياً وجيوسياسياً. وهكذا، تصبح الموازنة ساحة المواجهة الأساسية، ويغدو الحفاظ على استدامتها مفتاح الاستقرار المستقبلي.

 

**جوزيف عازار – أستاذ في جامعة باريس دوفين – PSL

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق