نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
التاريخ الإنساني وحكم رجال الدين - تكنو بلس, اليوم الاثنين 21 أبريل 2025 11:20 مساءً
الصراع الثقافي في هذه المرحلة الانتقالية من تاريخنا العربي، جزء منه "معضلة حكم رجال الدين"، إن كان بعضهم قابضاً على السلطة، وهو الأهم، أو يحاول جاهداً التأثير في السلطة، وهو الأقل أهمية. كلاهما يحاول فرض أجندة هي بالتأكيد خارج العصر الحديث.
مصطلح "حكم رجال الدين" يعني نمطاً من أنظمة الحكم التي عرفتها البشرية، حيث تكون السلطة بيد رجال الدين أو تخضع مباشرة لتأويلاتهم، ويُنظر إلى القانون والحكم والشرائع الناظمة للمجتمع على أنها تعبير عن إرادة إلهية لا عن إرادة الشعب وحاجاته. وقد خاضت البشرية في العصور الوسطى وما بعدها نضالاً طويلاً وحروباً دامية بسبب ذلك، وكان التخلص منه يعني مغادرة مرحلة حضارية ودخول غيرها.
في العصور الوسطى سيطرت الكنيسة الكاثوليكية على السلطة في الإمارات والدويلات الأوروبية، ملوكاً وشعوباً، فتم ربط مظهر الحياة العامة والخاصة بالتعاليم الكنسية، ومنع التفكير خارج تلك التعاليم، وحرمت الكنيسة كتب العلوم والفلسفة، وشهد العصر اضطهاد العلماء ومحاربة نظرياتهم على أنها هرطقة تستحق العزل، وفي بعض الأوقات الموت. كانت نتيجة تلك الفترة التي عُرفت بفترة الظلام، جموداً فكرياً وفساداً دينياً، وبيع صكوك الغفران، وتطور الأمر إلى تراكم الغضب، حتى وصلت الأمور إلى الإصلاح الديني البروتستانتي، ثم إلى الثورة الفرنسية التي رفعت شعار العقل ضد الثيوقراطية، والشعار الصاعق "علينا أن نشنق آخر ملك بأمعاء آخر قسيس" كناية عن انتشار الظلم الطاغي في تحالف الإثنين.
شهدت إيران في ظل الحكم الصفوي حكماً دينياً مشابهاً في التطبيق ومختلفاً في الأيديولوجيا، وتم قمع الأقليات وربط الدين بالسلطة. وتسبب ذلك في نهاية الأمر بحروب أهلية داخلية وحروب خارجية أسقطت النظام.
بعض الدول الإسلامية في العصور الوسطى مثل الخلافة الأموية والعباسية، لم يكن الحكم فيها للفقهاء، ولكن كان الخليفة يستعين بهم، ورغم الازدهار في البداية، فإنه مع تحكم رجال الدين تدريجاً في أمور الحكم، وزيادة نفوذهم، اختلط الدين بالسياسة لخدمة احتكار السلطة وتزيينها أمام العامة.
النتيجة النهائية التي يقدمها لنا التحليل السابق في هذا الملف الشائك، على تنوع التجارب واختلاف المعطيات وتعاقب العصور، هي فشل رجال الدين في الحكم الذي يقوم على قواعد خارج السلوك الإنساني، أي احتكار الحقيقة المطلقة، حيث ينظر إلى رأس الدولة الديني على أن قوله مقدس خارج النقد والمراجعة، وتقديس السلطة، بحيث يكون رجل الدين الحاكم ظل الله على الأرض، فلا يحاسب أو يراجع في قراراته أو يُنتقد، وأخيراً تجميد التشريع كقانون نهائي وأزلي، فيما تتغير ظروف الناس وأحوال معيشتهم، فتتعطل آلية الدولة الحديثة إلى حد العجز.
في هذه الأجواء، تُمنع الفنون والفلسفة وحرية النقد باسم الدين، ويجري التمييز بين المواطنين في المجتمعات المختلطة، كل بحسب دينه ومذهبه، وليس للمواطنة حيز يذكر أن يكون المواطنون متساوين في الحقوق والواجبات.
في كل الأحوال ينتهي الحكم الديني إلى غياب كلي للرقابة، وينتشر الفساد، ويختفي النظام المؤسسي.
إدارة الدولة الوطنية الحديثة تقوم على أسس، منها النظام المؤسسي، والمرونة في التشريع وحقوق الإنسان، وقد ثبت من تجارب تاريخية وحديثة أن الحكم باسم الدين كمنظومة اجتماعية فاشل تاريخياً، والسبب الجوهري هو خلط المقدس بالسياسي، وهما نقيضان.
تجاربنا الأخيرة في العالم العربي تؤكد ذلك الفشل. فحكم "الإنقاذ" في السودان دام أكثر من ربع قرن، وقسم السودان أولاً، ثم أطاح ويطيح اليوم بقية الدولة الوطنية السودانية. حدث ذلك في تجربة قصيرة في تونس، كانت ترغب في خلط السياسي بالمقدس، إلا أن الفشل كان بالمرصاد. وثمة محاولة في الجزائر في العشرية السوداء، وما حدث في المغرب، حيث صعد حزب "العدالة والتنمية" عام 2011 إلى الحكم، وسقط عام 2021 بفشل ذريع من 125 مقعداً في البرلمان الى 13 فقط! وهناك ما يحدث أمامنا في اليمن اليوم، وكلها عملية خلط عشوائي كانت نتيجتها الفشل في إقامة الدولة الحديثة.
الحديث عن إيران القائمة ليس ببعيد عن تلك الصورة، فأي تشريع أو محاولة سياسية يمكن شطبهما ببضع كلمات من القابض على السلطة، في ما يجب أن يكون أو لا يكون، والفيل الضخم في الغرفة، والذي لا يرغب أحد في رؤيته، هو إفلاس الدولة وفقر المواطنين وانتشار الفساد والحروب التي لا تنتهي...
0 تعليق