نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
بين التوثيق والتخييل... شريف صالح يروي عن "مجانين أم كلثوم" - تكنو بلس, اليوم الاثنين 21 أبريل 2025 07:12 صباحاً
هل إهمال قراءة الهوامش يمكن أن يخلّ بقراءة متن كتاب ما؟ وهل ستختلف الإجابة لو أن هذا الكتاب رواية؟ هذا ما خطر في بالي وأنا أشرع في قراءة رواية "مجانين أم كلثوم" (الدار المصرية اللبنانية) لشريف صالح، فقد لاحظتُ أولاً أن الثلث الأيسر من عدد كبير من صفحاتها خصَّصه الكاتب لهوامش أو حواش، كُتبت بحرف أصغر من ذلك الذي كُتب به "المتن". ثم هل أضاف العنوان الفرعي: "قصة عاشها ملايين ولم يكتبوها"، والذي ظهر داخل الكتاب وليس على الغلاف، تفسيراً لا غنى عنه للعنوان الرئيسي؟
يهدي صالح الرواية إلى روح والده حريصاً على أن يسبق اسمه الرباعي لقب "الحاج"، وإلى ذكرى أيام الأب نفسه في الحرب بين عامي 1964 و1973، "وقارورة عطر أهدتها إليه أم كلثوم"، في سياق دعمها "المجهود الحربي" لمصر في تلك الفترة العصيبة. وبالطبع يدخل هذا الأب ضمن أولئك الملايين الذين يسميهم الكاتب "مجانين أم كلثوم"، بحسب عنوان الرواية، أو عشاق صوتها المتفرد، وشخصيتها الآسرة، مفترضاً أن لكل منهم قصة غير مكتوبة عن ذلك العشق أو هذا "الجنون".
ثلاثة محاور
ومع ذلك يصعب أن نغفل في هذا الصدد الكتب التي كان موضوعها أم كلثوم قبل رحيلها وبعده، وهي من الكثرة بحيث يصعب إحصاؤها هنا، ومنها ما اتخذ طابعاً أدبياً، سار على نهجه شريف صالح، ولكن بطريقته الخاصة، مازجاً بين سيرة كوكب الشرق، من مولدها إلى رحيلها، وسيرة أخرى متخيَّلة لامرأة انتهازية، وسيرة جمعية يعتبر أعضاؤها أنفسهم حراساً على تراث سيدة الغناء العربي، فيما الرابط بين المحاور الثلاثة هو المخرج المسرحي جلال عاشور، وهو في الوقت نفسه سارد الرواية بضمير المتكلم. ويمتد الزمن الروائي من تسعينيات القرن الماضي إلى الوقت الراهن، وتبرز في ثناياه تحولات الذوق العام، في تلقي الفنون عامة وفن الغناء على نحو خاص، مع استمرار بعض أغاني أم كلثوم، في الوقت نفسه، في تحقيق أعلى نسبة مشاهدات على "السوشيال ميديا"، حتى بعد خمسين عاماً على رحيلها.
رواية 'مجانين أم كلثوم'. (الدار المصرية اللبنانية)
لا يكتفي شريف صالح بتوثيق سيرة أم كلثوم، وإنما قدم بالإضافة إلى ذلك، رؤية سردية مبتكرة لأغانيها التي أصبحت جزءاً من الوجدان العربي، وتأريخاً ثقافياً للقرن العشرين في مصر، بحسب ما ورد على الغلاف الخلفي. وهو هنا اتكأ على إلمامه بأصول النقد الفني بحكم دراسته في أكاديمية الفنون وحصوله على الماجستير ثم الدكتوراه، وعلى ذائقته الموسيقية وخبراته العملية والبحثية كصحافي محترف أيضاً.
آراء فنية
ومن أمثلة ذلك ذهابه – عبر سارد الرواية – إلى أن أحمد رامي "ارتضى أن يعيش ضحية للسِت لأكثر من نصف قرن"، وأحمد صبري النجريدي، "لم يحب دور الضحية الهائم في ملكوت السِت فهو اعتبر رفضها طلبه الزواج منها إهانة فابتعد إلى النسيان"، فيما محمد القصبجي "ارتضى أن يعيش في ظلها أربعين عاماً"، معتبراً في الأخير أن "كل شخص يختار التناقض الغرامي المفضل له" (ص 25)، وهو -أي السارد – هنا يتحدث أيضاً عن تجاربه الشخصية في الحب، وخصوصاً تجربته مع سلمى عبد البديع التي تزوجها وأنجب منها ثلاث بنات، لكن غرامهما سرعان ما انهار تحت وطأة طموحها الشخصي المتكئ على أساليب انتهازية ساعدتها في الترقي من مجرد معلمة في مدرسة إلى أستاذة جامعية وسيدة مجتمع مرموقة تتسابق برامج التلفزيون على استضافتها.
أما الآراء الفنية ذات الحس النقدي الموسيقي والأدبي فمنها: "أحب جملة بيرم الشعرية أكثر من رامي"، "مقام الصبا جارح في رقته وأساه" (ص 109)، "الموجي مزيج من شرقية السنباطي وعصرية عبد الوهاب، وأم كلثوم اعتبرته امتداداً للقصبجي"، "ميزة موسيقى بليغ ليست في جمال تعبيرها ولا إحكام تأليفها، وإنما في عفويتها وحساسيتها" (ص 179).
حراس أم كلثوم
جلال عبد الفتاح عاشور مخرج في مسرح "البالون"، مواليد 1970، ولديه ثلاث بنات. هو أحد أعضاء جمعية "حراس أم كلثوم" التي تكاد تكون تنظيماً سرياً، وهدفها هو القيام بكل ما يستطيعه أعضاؤها "كي لا تسقط السِت وينساها الناس". ولقب "الست" هو الشائع بين عموم عشاق أم كلثوم، ويقابله بالفصحى "السيدة"، ما يعبر عن تبجيل كبير لها يميزها عن غيرها من أساطين فن الغناء، من النساء. أمه دولت أبو المجد هي المتحدثة الرسمية باسم تلك الجمعية.

سعيد الطحان رمز 'مجانين الست'. (أرشيفية)
الصفحة الأولى من الرواية يتصدر متنها مقطع من أغنية لأم كلثوم: "دا انت لو حبيت يومين كان هواك خلاك ملاك"، وتحته فراغ بطول ثلثي الصفحة، من اليمين، فيما شغل يسار الصفحة هامش عمودي يحكي فيه السارد بضمير المتكلم عن عضو الجمعية علي عطيان الذي رأى أمه نسخة من أم كلثوم؛ "اعتبرت أمي كلامه إطراء جميلاً فابتسمتْ"، مع أن التشابه الملحوظ هنا لا يتعدى أن دولت تقلد أم كلثوم في ملابسها وفي طريقة تصفيف شعرها. وعطيان هذا هو طبَّال سابق، "أصابته لوثة أم كلثوم"، بتعبير السارد. الجمعية تتخذ من فيلا يملكها قبطان سابق يدعى وديد السجيني مقراً لاجتماعاتها ومن أعضائها شيخ معمم هو عبد السلام المشد، وقس مسيحي هو الأب أرسانيوس وأرملة طروب هي إحسان هانم، وجيجي الصفطاوي، وهي مخرجة أفلام وثائقية. محاضر جلسات أعضاء الجمعية جمعها جلال عاشور في دفتر كبير، لكنه ضاع لأن ورثة القبطان باعوا الفيلا بكل ما فيها.
حزب الكنبة
وربما كان المنطقي أن يربط السارد انهيار الجمعية بموت رئيسها وديد السجيني، لكنه ربط ذلك بثورة كانون الثاني/يناير 2011 التي اعتبرها أيضا سبب انهيار زواجه. يقول عن الثورة منطلقاً من مطلع أغنية "أراك عصي الدمع": "مات من مات في ثورة يناير. كنت أسير بمحاذاتها في طريق خاص بي. لم أشعر أنني أنتمي إليها ولا إلى الأصوات التي تتكلم عنها تمثلني. طبيعتي كمخرج تجبرني أن تكون الخريطة كاملة في رأسي، وكل التفاصيل واضحة أولا" (ص 109). وهنا يذكر إقدام بعض المتطرفين خلال الثورة نفسها على تغطية تمثال أم كلثوم في مدينة المنصورة بالنقاب. وكما يقول أيضا فإنه يعتبر نفسه "كبير مشجعي حزب الكنبة"، أي غير المبالين بما كان يحدث خلال الثورة، بينما كانت زوجته "ترفع شعار الثورة مستمرة" (ص 134).
في هذه الرواية مزيج من التقريرية الملائمة لنزعة التوثيق، واستعراض ثقافة السارد والتخييل الذي يصل إلى حد ما يمكن اعتباره واقعية سحرية في بعض المواضع وخصوصاً في نهاية الرواية عندما يقرر جلال عاشور ترك وظيفته في مسرح الدولة، بعد طلاقه من زوجته وانفراط عقد "جمعية حراس أم كلثوم"، ليختار العمل مؤذنا في مسجد في بلدة ريفية، من دون أن يفقد حماسته القديمة لتأسيس "اتحاد عالمي" لعشاق أم كلثوم، على رغم مثالية الفكرة، أو حتى خياليتها التي يمكن قبولها على مضض في سياق عمل روائي.
0 تعليق