العودة الخفية لكن القوية للحمائية... نحو عهد تجاري جديد؟ - تكنو بلس

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
العودة الخفية لكن القوية للحمائية... نحو عهد تجاري جديد؟ - تكنو بلس, اليوم الثلاثاء 15 أبريل 2025 07:24 صباحاً

لعدة عقود، كانت الاتفاقات الدولية بمثابة ضمان لانفتاح الاقتصادات وتحرير التجارة. فمن اتفاقية الجات (GATT) إلى منظمة التجارة العالمية، بدا الهدف واضحًا: جعل التجارة العالمية رافعة للسلام والازدهار والتنمية المشتركة. وقد تراجعت فعليًا الرسوم الجمركية بشكل كبير، من 7.6% في عام 2001 إلى أقلّ من 4% في عام 2019.

 

ولكن للتاريخ مساراته الملتوية. فمنذ بضع سنوات، عادت الحمائية إلى الواجهة، لا من الباب الرئيسيّ، بل عبر نوافذ متعدّدة.

 

أولًا: الحمائية... رد فعل اقتصادي قديم

لنتذكّر الأساسيات. الحمائية، بشكلها الكلاسيكي، تهدف إلى حماية الشركات الوطنية من خلال فرض رسوم جمركية على الواردات. وهذه الضرائب تجعل المنتجات الأجنبية أكثر كلفة، مما يمنح المنتجات المحلية ميزة تنافسية.

 

نظريًا، يمكن أن تدعم هذه الاستراتيجية الصناعات الناشئة أو المتعثرة. لكن وفق المنطق الاقتصادي النيوكلاسيكي، فإنها تخلق تشوّهات تؤثر سلبًا على كفاءة الأسواق، وتضرّ بالنمو، والقدرة الشرائية، والرفاه العام.

 

ومع ذلك، لا تنقص الأسباب السياسية والاقتصادية التي قد تبرّر اللجوء الموقت – أو الاستراتيجي – إلى هذا النوع من السياسات. من حماية الوظائف المحلية، إلى البحث عن مصادر دخل للدول النامية، مرورًا بالرهانات الانتخابية... كلها دوافع مشروعة.

 

وقد أظهرت دراسة أميتّي، ريدينغ، وواينستين، بشأن الرسوم التي فرضتها إدارة ترامب على الصين، أن التكاليف تحمّلها بشكل أساسي المستهلكون والشركات الأميركية نفسها، أي أن الحمائية ليست دون عواقب على مَن يمارسها.

 

ثانيًا: عالم أكثر تعقيدًا... وحمائية أكثر دهاءً

لم نعد اليوم في عصر الرسوم الجمركية البسيطة والمباشرة. لقد غيّرت العولمة سلاسل الإنتاج: فأصبح المنتج الواحد نتيجة لعملية تصنيع موزعة على قارات عدّة. وبالتالي، فإن فرض رسوم على واردات معينة قد يعني، أحيانًا، الإضرار بالصناعة الوطنية نفسها.

 

في هذا العالم المتشابك، تتكاثر أشكال جديدة من الحمائية، مثل بنود الحماية، والتدابير المضادة للإغراق، والرسوم التعويضية، والمعايير التقنية والصحية... كلها سياسات لا تُعلن صراحة أنها حمائية، لكن آثارها كذلك  من دون شك.

 

اليوم، يخضع نحو 70% من التجارة العالمية لهذه الحواجز غير الجمركية. ويُعتبر القطاع الزراعي، الذي لطالما حظي بحماية الدول، المستفيد الأول منها.

 

ثالثًا: الجغرافيا السياسية تدخل ساحة التجارة

الحمائية الحديثة لم تعد اقتصادية فحسب، بل تحوّلت إلى أداة من أدوات النفوذ السياسي.

فأزمة تلو الأخرى – من الأزمة المالية في 2008، إلى جائحة كورونا، مرورًا بالحرب في أوكرانيا – جعلت الدول تعيد اكتشاف فوائد (ومحدودية) الانكفاء الاستراتيجي.
وباتت العقوبات الاقتصادية، وقيود التصدير، وحتى إعادة توجيه التجارة لأهداف سياسية، سِمات لمرحلة جديدة.

 

وقد حدّدت الولايات المتحدة النغمة. ففي عهد ترامب، ترجم شعار "اجعلوا أميركا عظيمة مجددًا" حرباً تجارية مفتوحة مع الصين.

وفي عهد بايدن، جاءت خطة خفض التضخم لتعزّز مصالح الشركات الأميركية في مجال الانتقال الطاقوي، مما أثار قلق شركائها. وردّت أوروبا عبر تطوير أدواتها الخاصة لمواجهة الإكراهات الاقتصادية.

 

رابعًا: "صداقة التجارة" وإعادة التوطين: تجارة مشروطة

روّجت جانيت يلين لمفهوم "التجارة بين الأصدقاء" (friend-shoring): أي حصر التبادل التجاري بين الحلفاء. وهي فكرة تماشت مع رغبة الدول في تأمين سلاسل التوريد الاستراتيجية، لا سيما في مجالات الطاقة، والأدوية، والتكنولوجيا الحساسة.

 

بالتالي، فإن الصين وروسيا، اللتان يُنظر إليهما في الغرب كدول "غير صديقة"، تواجهان قيودًا متزايدة على دخول أسواق الغرب، بدافع اعتبارات سياسية وأمنية.

لكن هذه الاستراتيجية تصطدم بواقع مختلف: فالدول لا تصنع المنتجات، بل تفعل ذلك الشركات – غالبًا متعددة الجنسيات – التي لا تميل بسهولة إلى التضحية بالربحية والكفاءة لأجل أهداف جيوسياسية.

 

خامسًا: منظمة التجارة العالمية في أزمة... نحو عهد تجاري جديد؟

أمام هذه التحولات، تجد منظمة التجارة العالمية الضامنة للتعددية التجارية صعوبةً في فرض احترام قواعدها.
فهيئة تسوية المنازعات فيها شبه مشلولة، والدول الكبرى تفضّل تصفية خلافاتها عبر مفاوضات ثنائية.

 

تتغير خريطة التجارة العالمية تدريجيًا، في عالم تعيد فيه التحالفات السياسية رسم الطرق التجارية.

 

الحمائية عادت إلى الواجهة. قد لا يُعلن عنها دائمًا، ونادرًا ما تكون صدامية، لكنها باتت الآن إحدى الركائز البنيوية في النظام التجاري العالمي.

 

وسيتعين علينا التعايش معها، في عالم تتشابك فيه الاقتصادات بشكل متزايد مع الجغرافيا السياسية.

 

** جوزيف عازار، أستاذ في جامعة باريس دوفين - PSL

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق