نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
مشهد سوريالي من جامعاتنا؛ تكنوقراط يتحدثون بالتصنيفات العالمية وخريجون يهتفون للعشيرة #عاجل - تكنو بلس, اليوم الجمعة 23 مايو 2025 11:28 مساءً
كتب أ. د. عبدالحكيم الحسبان -
حظيت المشاجرة الطلابية التي وقعت في جامعة اليرموك بالامس بتغطية خبرية وإن كانت هامشية، وبفضلها عرف بعض من الرأي العام الاردني إن حدثا مزعجا قد وقع في جامعة اليرموك. وأما ما لم يعرفه كثير من الناس سوى العاملين في الجامعة نفسها، إن مشاجرة الامس لم تكن سوى خاتمة بغير طعم المسك لثلاثة أسابيع كانت أشبه بحفلة جنون عاشتها الجامعة وعاشها العاملون فيها. فطقوس الاحتفال في نهاية كل فصل بتخريج من انهوا متطلبات تخرجهم، جاءت مبكرة هذا العام، كما جاءت طويلة ومطولة وصاحبها بناء خيم بجوار الكليات وطقوس اخرى كثيرة مستجدة.
فالعاملون في الجامعة الذين لطالما عرفوا أن جامعة اليرموك ومنذ التأسيس وضعت اطارا مؤسسيا ومهنيا ولائقا يتعلق بلحظة التخرج، وأنها أفردت لها اهتماما خاصا بتشريعاتها كما بروزناماتها السنوية، كما بهيكلها الاداري. فقد فوجئوا هذا العام ليجدوا أنفسهم أمام طقوس وممارسات قيل أنها تحتفي بلحظة التخرج ولكن في توقيت صادم يسبق نهاية الفصل الدراسي بأسابيع، كما فوجئوا بطقوس وممارسات مطولة امتدت على مدى اسابيع قيل أنها احتفالية أيضا هي من خارج الاطار المؤسسي الذي لطالما رعته الجامعة وقامت به على اكمل وجه من المؤسسية والمهنية. لقد بدا الامر وكأن الطلبة أو بعضهم قد فرضوا أمرا واقعا، وأن قانونهم أو قانون البعض منهم هو الذي ساد وهيمن وليس قانون المؤسسة.
وفي الطقوس والممارسات التي جرت لن اتوقف عن نقاش الكثيرين من الزملاء الذي عانوا من فوضى كبيرة جرت، ومن تفاصيل كثيرة حدثت أضرت بالعملية التدريسية، وهي مسألة خطيرة بالتأكيد. ولكني آثرت أن اتوقف عند جوانب سوسيولوجية وأنثروبولوجية وقانونية بل ودستورية تثيرها تلك الاحداث التي جرت في الجامعة، ويجب على صانع القرار من أصحاب الياقات البيضاء الذي يبدو منهمكا في تقييمات داخل غرف مليئة بأكوام من التقارير الورقية والارقام والاحصائيات التكنوقراطية والبيروقراطية كي يقرر فيما اذا كانت الامور تسير على ما يرام في جامعاتنا. فيكفي أن تشاهد بضعة فيديوهات لما جرى في الجامعة، ويكفي أن تشاهد وتسمع تلك الهتافات لتعرف ما هو نوع المنتج التعليمي الذي باتت جامعتنا أو معظمها تبرع في انتاجه، بعد أن امعن اصحاب الياقات البيضاء في الغوص في حديث التصنيفات العالمية وفي حديث ملائمة الخطط الدراسية لحاجات السوق، ولم نعد نلتفت لحاجات الوطن والدولة والمجتمع التي هي أكبر وأجل كثيرا من حاجات السوق على أهميتها.
في كثير من الفيديوهات التي تناقلتها وسائل التواصل الاجتماعي لاحتفالات الطلبة بالتخرج وليس احتفالات الجامعة، تشاهد عشرات من الطلبة في كل تجمع وهم يرقصون ويصرخون أو يتشاركون الدبكة. ولكن في الكثير من هذه التجمعات تسمع وتشاهد تجمعات للمحتفين على أساس عشائري، بحيث يبدو التجمع وكأنه تجمع لاعضاء من عشيرة يحتفون بعشيرتهم. وأما بعض التجمعات فانت ترى وتسمع لافتات تحتفي بالبلدة أو القرية أو تجمع القرى التي يتشارك اعضاء التجمع في الانتماء اليها. بل قيل أن بعض الطلبة أصروا على ان تنظيم احتفالات تكون حصرية لمن هو من مناطقهم. مشاهد تمجيد العشيرة والمنطقة الجغرافية الضيقة كانت هي المهيمنة هذا العام.
أكاد اشعر بالرعب لان من قادوا الاحتفالات المديدة هذا العام عجزوا أن يجدوا ما يستحق أن يحتفلوا به، فلم يجدوا غير الاحتفال بما يحملون من اسم لعشيرة أو لمنطقة جغرافية. فلا العلم يستحق أن يحتفى به، ولا انجاز علمي باهر يستحق أن يكون شعارا للمحتفين ولا شعار حزبي يتعلق بالكرامة والتنمية والحرية مثل فكرة تستحق ان يكون الاجتماع حولها، كما الاحتفال بها. بل إن الوطن الذي يمكن له أن يجمع كل الطلبة بدا غائبا، فبحثوا عما يمكن أن يقسم ويجزئ، فبحثوا في كل تلك الشقوق والفراغات ليعثروا على هويات ضيقة تمزق الهوية الوطنية الجامعة.
اجزم أن العقل العلمي البارد سوف يشعر بالصدمة من أن طلبة في طور التخرج بعد أن امضوا سنوات طويلة في الجامعة وتتلمذوا على ايدي اساتذتها، وشربوا من منتجات خططها الدراسية يحتفلون بتخرجهم من خلال شعارات عشائرية، ومن خلال الاحتفاء بهويات عشائرية ومناطقية. وأما مصدر الصدمة فهو في نوع الولاءات والهويات والمخلوقات التي بات نظامنا التعليمي ينتجه. شعارات الطلبة هي أفضل وثيقة وشاهد ودليل على نوع مخرجات مناهجنا التعليمية في المدرسة كما في الجامعة. وشعارات الطلبة تغني عن عشرات الاف الصفحات من التقارير والاحصائيات والارقام التي يبرع تكنوقراط التعليم العالي ومجالس الامناء في الجامعات في كتابتها ومناقشتها في طقوس طويلة تصدع الرأس.
وأما مصدر الصدمة من محتوى هذه الشعارات فهو لا يتعلق مطلقا بالعداء للعشيرة أفرادا واعضاء، فكل افراد العشائر هم افاضل واجلاء، ولكن العداء هو لأن تكون العشيرة أو المنطقة الجغرافية الضيقة هي أساس الرابط بين أفراد المجتمع، فكيف إذا تعلق الامر بطلبة يتخرجون من الجامعات. فالمحتفون بالعشيرة في الفيديوهات، كما المشاهدون لها، لم ينتبهوا إلى كم التعارض والتضاد بين شعارات واغان واهازيج تحتفي بالعشيرة داخل حرام مكاني يسمى "جامعة". الجامعة فضاء مهتمه الجمع وعمله أن يجمع، هكذا تقول اللفظة العربية. وأما أهازيج العشيرة والمنطقة فهي تقود حكما للتفرق والتفرقة والتشرذم.
فاللفظة الغربية لمصطلح University بالانجليزية و Université بالفرنسية مشتقتان من لفظة Universe .وهي تعني الكون وتشير الى كل ذلك التنوع والتعدد في اطار الشيء الواحد والماهية الواحدة. فمن ترجم المصطلح للغة العربية اختار وكان محقا ومصيبا أن يختار لقظة جامعة ليترجم بها المصطلح الغربي. ما نسميه بلغتنا العربية جامعة، لم نختر له اسما يشير أنه مكان للتعليم أو التعلم أو التدريس أو فعل التدريس والاكتساب المعرفي، فقد اختارنا له السمة الاكثر أهمية وهو أنه جامعة تجمع لتطيح بقوى التشرذم والتفرق.
وثمة مصدر آخر للشعور بالصدمة من احتفالات بالعشيرة والمنطقة ينظمها خريجوا جامعات ويبثون مضمونها على صفحات السوشال ميديا، يتأتى من ذلك الكم من اللاتاريخية الذي تحمله تلك الشعارات. فالعشيرة تنظيم اقتصادي واجتماعي واخلاقي وقيمي وسياسي وأمني سابق للدولة، وطورته البشرية قبل عشرات الاف السنين يوم لم تعرف البشرية الزراعة والاستقرار والدولة والمدينة والكتابة. فكانت رابطة الدم هي مصدر التشارك الذي يتشاركه اعضاء العشيرة هي التي تؤمن الحماية للفرد في غياب الدولة، كما تؤمن تسوية النزاعات في غياب عدالة الدولة وقضائها. وما ان عرفت المجتمعات الزراعة والاستقرار والمدينة حتى نشأ رابط حديث وحداثي هو رابط الانتماء للدولة الاقليم، فبات الرابط الوطني ورابط الانتماء للمدينة هو مصدر الهوية وعلى اساسه تجري كل العلاقات والتفاعلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
في تنظيرات كبار علماء الاجتماع الغربيين ثمة تركيز على أهمية التحول من الهويات الضيقة الى الهويات الواسعة من وطنية وقومية وكونية في عمليات التحديث السياسي والاقتصادي والاجتماعي، إذ لا حداثة وصناعة وعلم دون ها التحول، فقد مثلث الجامعة الالة الاجتماعية والدولتية الاهم والاكثر نجاعة على صعيد خلق الهويات الكونية في مواجهة الهويات الضيقة من طائفية وعشائرية ومناطقية. وأن تخرج الهتافات للهويات الضيقة من داخل الحرم الجامعي فهذه كارثة وطنية كبرى.
الهتاف للعشيرة والمنطقة والظائفة في مجتمع انتقل الى عصر الدولة، ومن مكان اختارت الامة لفظة جامعة لتشير الى اسمه، وفي تاريخ زمني يننتمي للقرن الواحد والعشرين يجب أن يستنفر كل العقول وكل صناع القرار في السياسة والتعليم العالي واجهزة الامن. فالهتاف للعشيرة هو هتاف لعصر ما قبل الدولة، وما قبل المدينة، وما قبل الحضارة، وما قبل الجامعة، وما قبل العلم ، ومن يهتف لها هو حتما يهتف ضد الدولة، وضد التاريخ وضد الجامعة وضد الوطن.
ما جرى في الجامعة من هتافات لا يمكن التقليل من شأنه، والاحتفاء بالعشيرة من قبل طلبة يتخرجون من الجامعة يطرح اسئلة كثيرة عن الدور الوطني والاجتماعي والسياسي والاخلاقي والقانوني والقيمي والهوياتي والحقوقي الذي تضطلع به أو لا تضطلع بها الجامعات. كما يطرح اسئلة كثيرة عن معنى أن تغوص إدارات بعض الجامعات في خطاب التصنيفات العالمية، والجودة ونحن نرى منتجا جامعيا يمعن في هويات ما قبل الجامعة والدولة والتاريخ. كما يطرح أسئلة كثيرة عن كل تلك السياسات التي يتبناها عقل الدولة في قطاع التعليم العالي الذي عليه أن يقرر فيما اذا كان يريد منتجا جامعيا يتقن ويتملك المهارات التي يتطلبها السوق، ام منتجا جامعيا ينتج مواطنين حداثيين ينتمون للدولة والتاريخ ويخدمون الدولة ولا شيء غير الدولة والامة.
ومن يهتف لعشيرته يوم تخرجه، سوف يخدم عشيرته عند تعيينه في وظيفته، وهو سوف ينتقي من هو من عشيرته حين توفر شاغر لموقع المدير فيها، وهو سوف ينتقي من هو من عشيرته حين توفر شاغر دراسي خارج الاردن متجاوزا كل من هو اكثر كفاءة من أبناء الامة والوطن والدولة. وهو سينحاز في كل خياراته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقيمية لمن ينتمي معهم لعشيرته، ولن يكون هناك معنى للوطن والدولة سوى في بعض الاغاني والاهازيج التي تطلق في المناسبات.
قدمنا لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى هذا المقال : مشهد سوريالي من جامعاتنا؛ تكنوقراط يتحدثون بالتصنيفات العالمية وخريجون يهتفون للعشيرة #عاجل - تكنو بلس, اليوم الجمعة 23 مايو 2025 11:28 مساءً
0 تعليق