نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
"قصة صغيرة": قراءة في رواية "جنتلمان في موسكو" لأمور تاولز - تكنو بلس, اليوم الاثنين 14 أبريل 2025 07:50 صباحاً
تفرض رواية "جنتلمان في موسكو"، بقلم أمور تاولز، نفسها كواحدة من أبرز الأعمال الأدبية التي عبرت من باب العصر الكلاسيكي إلى وجدان القارئ المعاصر. هذا الكتاب، الذي لاقى احتفاءً عالمياً، من نقّاد واشنطن بوست ووول ستريت جورنال وشيكاغو تريبيون، وصفته الإعلامية أوبرا وينفري بأنه يستحضر العصر الذهبي للأدب الروسي كما كتبه تورجينيف وتولستوي. في حلقة جديدة من "قصة صغيرة" مع الصحافية ميشيل تويني، نغوص في صفحات "جنتلمان في موسكو".
تدور أحداث الرواية في موسكو، وتحديداً بين جدران فندق "متروبول"، حيث وُضع الكونت ألكسندر روستوف، بطل الرواية، قيد الإقامة الجبرية بعد أن حكمت عليه المحكمة البلشفية بالسجن عقب اندلاع الثورة الروسية عام 1922. لم يُزجّ به في زنزانة، بل حُكم عليه بالبقاء في الفندق، وهناك، في مكان واحد مغلق، تبدأ رحلة سردية ساحرة تنقل القارئ عبر تحولات روسيا، من الثورة البلشفية إلى عهد ستالين، والثمن الذي دفعه المجتمع الروسي مقابل التغيير.
ألكسندر روستوف، الأرستقراطي المثقف والشجاع، ينتمي إلى المجتمع المخملي في روسيا ما قبل الثورة. عاش حياة مترفة ضمن نخبة ضيّقة، قبل أن يجد نفسه محصوراً داخل جدران الفندق لعقود. غير أنّه لم ينهزم أمام هذا القيد، بل وجد في العزلة سبيلاً لإعادة اكتشاف ذاته والعالم من حوله.
الرواية تسلط الضوء على مسألة الحرية، وتطرح سؤالاً فلسفياً عميقاً: هل يمكن للإنسان أن يكون حراً وهو قيد الإقامة الجبرية؟ من خلال سرد ذكي وشخصية آسرة، يقدّم لنا تاولز إجابة غير مباشرة: نعم. فرغم أنّ روستوف لم يكن يتمتّع بحرية الحركة، إلا أنه بقي حراً في طباعه، في اختياراته، في رؤيته للعالم، وفي طريقة تفاعله مع الأحداث من حوله.
الرواية أيضاً درس في التكيّف مع التحوّل. روستوف لم يعارض التغيير الجذري الذي اجتاح بلده، بل تعامل معه برشاقة داخلية مدهشة. تأقلم مع واقعه الجديد، كوّن صداقات جديدة مع العاملين في الفندق من مديرين وطهاة وموظفي نظافة، وخلق من هذا المحيط مجتمعاً صغيراً تحكمه المودة والوفاء.
من بين العلاقات البارزة التي تنسجها الرواية، العلاقة بين روستوف والفتاة صوفيا، التي كانت تقيم في الفندق أيضاً. نشأت بينهما علاقة أشبه برابطة الأب بابنته، إذ صار مرشداً لها، يعلمها ويمنحها دروساً في الحياة، ويساعدها على التطور رغم قيد المكان. يصف الكاتب هذه العلاقة بدفء بالغ، ويجعل منها محوراً عاطفياً يكشف عن حسّ إنساني عميق في زمن القمع والتحولات السياسية العاصفة.
لكن "جنتلمان في موسكو" ليست فقط رواية علاقات وعواطف. إنها أيضاً رواية عن الصمود، عن قدرة الإنسان على بناء عالم داخلي متماسك في ظلّ القيود، عن كيف يمكن للفكر والثقافة أن يُبقيا الفرد حراً حتى في أقسى الظروف. روستوف، رغم فقدانه لعالمه القديم، لم يتخلَّ عن قيمه ولا عن حبه للثقافة. بل جعل من الفندق فضاءً فكرياً وروحياً يمارس فيه حريته بطريقته الخاصة.
وفي النهاية، بعد عقود من العزلة، يُبلَّغ روستوف أنّ بإمكانه المغادرة. لكنه لا يخرج من الباب الأمامي، بل يغادر من الباب الخلفي، في مشهد رمزي عميق يعكس طباعه المتفردة، وكأن خروجه كان أيضاً قراراً حرّاً، مثل حياته التي اختار أن يعيشها على طريقته، حتى في أحلك الظروف.
"جنتلمان في موسكو" التي تُرجمت إلى أكثر من لغة وتحولت إلى مسلسل درامي، تبقى واحدة من تلك الأعمال التي ستظل تُقرأ لسنوات وأجيال، لا لأنها فقط تروي حكاية، بل لأنها تمنح القارئ تجربة وجودية، وتأملاً صامتاً في ماهية الحرية، والصداقة، والتأقلم، والكرامة.
0 تعليق