نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
مسرح كركلا يعود بـ"ألف ليلة وليلة": طقس جمالي من زمن آخر - تكنو بلس, اليوم الاثنين 14 أبريل 2025 07:36 صباحاً
بيروت - شربل بكاسيني
كأنّك تدخل زمناً لا يشبه أيّ زمن. كأنّك تُسلِّم نفسك لقصيدةٍ حيّة، تُنسج بخيوط الضوء، وتُروى بالأجساد التي خُلِقت لتروي. هكذا جاء العرض الأول لـ"ألف ليلة وليلة"، رائعة مسرح كركلا التي عادت مساء الجمعة لتشعل ليالي بيروت الثقافية، وتُعيد الحكاية إلى أصلها السحري، إلى الليالي التي قرأنا فيها من "أسمار الليالي" للمرة الأولى، أطفالاً لا يتعب خيالنا.
يُضاء المسرح على سِحرٍ بصريّ لا يُشبه أيّ عرضٍ آخر. أزياء تتماوج كالماء، أو كنسائم أيلول. كأننا أمام سمفونية من الحرير والضوء والخيال، حيث تُطوّع السينوغرافيا ببراعة لتخدم القصة من دون أن تسرقها. هنا، كلّ تفصيل محسوب: الضوء يهمس، والظل يروي، والجسد يحلّق. والتناغم في فصلَي العرض ليس وليد الصدفة، بل عمر من الإبداع وتقييم "كركلا" ذاته باستمرار.
كوريغرافيا تنحت في الهواء
الموسيقى… آه، الموسيقى! أن تبدأ الليلة بنغمات "شهرزاد" لرمسكي كورساكوف، وأن ينسجها "كركلا" مع الـ "بوليرو" لموريس رافيل، فهذا وحده يُغني العرض عن أي مقدّمة. الألحان، الغربية والشرقية، تتشابك بحنان، كأنها تتودّد إلى الجمهور، تدعوه ليذوب في الحكاية. والألحان تتعانق مع جسد الراقص، ويصير الاثنان شيئاً واحداً؛ والجسد هنا لا يرقص فقط، بل يحكي ويحسّ، في طقس جمالي قلّ نظيره. ليت ريتا هايورث رأت ما عند "كركلا" ليقدّمه، لكانت تركت "سالومي" ورقصة الحُجُب السبعة وأنغام جورج دونينغ الاستشراقية، وجاءت تشهد لعظمة مسرحنا!
تُتقن أليسار كركلا الكوريغرافيا، ولا توقّع اسمها إلّا على ما يتماشى والحلم الذي لا يعرف مساومة. تنحت في الهواء أجساداً ترسم فصول الحكاية وتعطيها أبعاداً عملاقة. كل حركة مدروسة، كل التفاتة تحمل دلالة، كل قفزة توقظ إحساساً دفيناً في الجمهور. لا عبث، لا مبالغة، بل سحرٌ محسوب يخترق نفسك، ويشحنك بتيّار عالٍ يُخدّر جسمك ويرفع يديك لتمزّق الفضاء مصفّقة.
والرقص هنا لغة تفكّك المعنى وتعيد تركيبه. وشهرزاد تحمل شهريار في كلّ ليلة من خيانةٍ إلى شفاء، من موت النفس إلى الحبّ. وحكاياتها مرايا تُعرّي الروح، وتُظهر عيوبها، وتضع الإصبع على الجرح، وما أحوجنا إلى من يضع إصبعه على جراحنا، فنعترف بها وبخساراتنا، ونلتفت نحوها لمداواتها.
ارتقاء بالحكاية
وصوت غابريال يمّين يصدح بتموّجاته التي وحده يُتقن لعبتها، ويروي لنا فصولاً من سيرة "شقيقين بالمجد صارا شقيقين باللعنة". والأجمل أنّ "كركلا" لم يكتفِ بنقل الحكاية، بل ارتقى بها. وفي زمنٍ كثرت فيه الجراح، يأتي عرضٌ كهذا ليقول لنا إنّ حكاياتنا لم تنتهِ، وإنّ لكلّ منّا شهرزاده التي يجب ألّا تسكت عن الكلام المباح، وإن أدركها ألف صباح.
لم تكن تحية الختام مجرد تصفيق. كانت وقفة احترام، واعتراف بأنّ هذا العرض هو أكثر من مجهود. اللوحة اللبنانية كانت منتظرة. هدى حداد، جوزف عازار، سيمون عبيد، أسماء لها ثقلها المسرحي، ولولاها لما اكتمل العرض. وهدى وجوزف آتيان من زمن عرف العزّ والعذاب، ويضيفان الألق أينما حلّا، وغناؤهما لبنان الحلم أدمع الحاضرين وتعالى له التصفيق.
والعمل كامل متكامل، من الإخراج المسرحي لإيفان كركلا إلى الحوار والإشراف العام لعبد الحليم كركلا، إلى كلّ فنان وراقص وتقني شارك، وعميد الفلكلور عمر كركلا الذي ارتجّت الخشبة لدبكته المتعالية. هي رقصة على إيقاعات أحلامنا. وحين تضيق بنا الأرض، يكفينا أن نُضيء مسرحاً واحداً، لنشهد للبنان الجميل، المتجذّر بالفن، والمفتوح على العالم.
كادر:
كلّ رقصة، وكلّ مشهد، راح يتقدّم بنا في رحلة الإنقاذ الكبرى: إنقاذ الحُب عوالق النفس، وإنقاذ الجمال من القسوة.
الصور لنبيل إسماعيل
0 تعليق