نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
سوريا التي لا تشبه نفسها - تكنو بلس, اليوم الخميس 10 أبريل 2025 01:15 صباحاً
كانت سوريا منذ استقلالها دولة انقلابات، وهو ما يعني أنها بلد فالت لا يمكن أن يُحكم سوى بالقوة. ذلك الدرس الذي فهمه حافظ الأسد بطريقة رديئة ومنع من خلاله الاستمرار في الانقلابات غير أنه أنهى في المقابل الحياة السياسية التي صارت تتعفن وتتكلس، بعدما أكد الحزب الشيوعي السوري برئاسة خالد بكداش أن مستقبله صار مرتبطاً بسوريا الأسد.
لم تكن تلك الوصفة سياسية بقدر ما هي محاولة لإدارة ظهر الدولة لماضيها وتقليصها لتكون بحجم عائلي؛ ذلك ما نجح الأسد الأب فيه حين وجد الحزب الحاكم خلاصه في توريث الحكم للأسد الابن الذي أثبت أنه غير قادر على الحفاظ على مكونات الوصفة متوازنة، بحيث سمح للأوضاع بالإفلات من يديه في أول حراك سياسي شعبي يواجهه. وإذ انقلبت الأمور رأساً على عقب فإن أحداً ليس في إمكانه التكهن بطريقة ملموسة بإمكانية استعادة الوجه السياسي للدولة بعدما تم تكثيف الرؤى العرقية والطائفية على حساب الرؤى الحزبية التي صارت عبارة عن وشاح شفاف، كأن يكون للأكراد أحزابهم وللعلويين حزبهم وللسنّة منظماتهم وهلمّ جراً. ذلك ما سينسحب في أوقات لاحقة على التوليفة الحاكمة التي هي بغض النظر عن انتمائها إلى ما يُدعى فئة الخبراء، وهي تسمية عائمة إنما تندرج في إطار المحاصصة العرقية والطائفية القائمة على شعور عميق بالخوف من اشتعال حرب أهلية لا تنتهي، كانت نذرها قد تضمنها سؤال قديم يتجدد هو "ما الذي سيحدث للأقليات لو غاب الأسد؟".
الوارث صناعة حزبية
لم يكن الأسد الابن يملك وصفة جديدة للحكم صالحة للاستعمال بعدما فسدت الطبخة في عهد الأسد الأب، ولكن الأب لم يكن يأمن لأحد. كان يشك في أقرب الناس إليه. تلك عادة الطغاة، مسلوبو الإرادة في مواجهة شغفهم المرضي بالسلطة. كان يمكن أن يتخلى عن الحزب لو شعر أن وجوده يشكل خطراً على سلطته الفردية. العكس حدث للابن؛ فالحزب حين اختاره وارثاً للرئاسة لم يقم بذلك وفاء للأب أو خوفاً من أجهزته بل فعل ذلك من منطلق فرض هيبته على الرئيس الجديد والسيطرة عليه. وهو ما حدث فعلاً.
حين بدأت الاحتجاجات الشعبية لم يطالب أحد برحيل النظام ورأسه بل انحصرت المطالب بتقييد الحزب والحد من صلاحياته وهو ما رفضه الرئيس بل وسخر منه في خطابه الأول. ما معنى ذلك؟
المعنى الظاهر لذلك السلوك الذي اعتبر في حينه انتحارياً، أن الرئيس لا يرغب في أن يُفرض عليه التغيير حتى لو جاء استجابة لمطالب شعبية. أما المعنى الخفي فإنه يكشف عن عدم رغبة الرئيس في الاصطدام بالحزب خشية أن يكون في ذلك نوع من التحريض على التآمر عليه من داخل منظومة الحكم.
حتى آخر لحظة من لحظات وجوده في القصر الرئاسي لم يكن بشار الأسد مطمئناً إلى ولاء الحزب والحزبيين العاملين داخل الدولة له شخصياً. هذا لا يعني أن الدولة التي شيدها والده كانت في جزء منها ضده، غير أن ذلك الجزء قد يتخلى عنه إذا ما شعر بتهديد لمصالحه. ربما لا تفسر الهزيمة السريعة وغير المتوقعة التي مُني بها الأسد ذلك.
الوطنية السورية وأمن إسرائيل
في الثامن من كانون الأول / ديسمبر 2024 لم يكن بشار الأسد موجوداً في دمشق. غادرها من غير عودة. هل اتخذ الرجل الذي كانت صوره مرفوعة في الشوارع والساحات العامة وتحتها جملة "منحبك" قرار رحيله يائساً بعدما صارت المدن السورية تتساقط واحدة تلو الأخرى وفي وقت قياسي في قبضة قوات الفصائل المسلحة التي تقودها "هيئة تحرير الشام"، أم أنه انتقل إلى موسكو بناء على أوامر روسية مع وجود ضمانات أميركية بعدم ملاحقته؟
الإجابة لا تحتاج إلى كثير خبرة. ذلك لأن إيران قد سُمح لها بسحب خبرائها إضافة إلى ميليشياتها العراقية والأفغانية والباكستانية في الوقت الذي كانت فيه قوات الفصائل تدخل إلى دمشق منتصرة. لم تكن إيران مساهماً فاعلاً في الصفقة غير أنها كانت على اطلاع على بعض تفاصيلها من خلال روسيا. لقد تأخر إبلاغ الأسد بتلك الصفقة لأن مَن ساهموا فيها كانوا على ثقة بأنه لا يملك القوة التي يدافع من خلالها عن بقائه في الحكم. فلا جيش لديه ولا تنظيم عقائدي يواليه. كان بقاؤه في السلطة رهين اتفاق روسي - إسرائيلي، انتهت صلاحيته بعدما قررت إسرائيل أن وجود الأسد لم يكن له معنى على مستوى أمنها وبعدما قدمت الولايات المتحدة ضمانات لها بأن مرحلة ما بعد الأسد ستطوي شعارات الممانعة والمقاومة إلى الأبد. أما الوطنية السورية فستكون منحصرة في الشأن الداخلي ولا علاقة لها بما تراه إسرائيل مناسباً لأمنها.
وصفة خارج المزاج السوري
سوريا الآن هي ليست سوريا التي كانت للأسد إلى الأبد. ذلك مؤكد وهو أمر إيجابي غير أنه ليس كل شيء. ففي العراق اختفى صدام حسين ونظامه غير أن الأوضاع في البلد حتى بعد أكثر من عشرين سنة من ذلك التحول ليست أفضل حالاً مما كانت عليه إلا إذا اعتبرنا رفاهية الطبقات السياسية الفاسدة مقياساً. وهو ما ينطوي على الكثير من التجني على الشعب العراقي الذي لا يتأسف على الماضي بقدر ما يشعر بالألم وهو يواجه خسارة أحلامه كلها. بالطريقة نفسها يمكن النظر إلى سوريا على الرغم من أن التغيير في العراق جرى بقوة الاحتلال الأميركي القاهرة وأن الأميركيين فرضوا نظام محاصصة طائفياً كان بمثابة وسيلة لتطبيع الطائفية السياسية اجتماعياً. وإذا ما كانت القوى الإقليمية والدولية قد أجمعت على أن "هيئة تحرير الشام" بتجربتها في حكم إدلب هي الأكثر تجسيداً لمرحلة ما بعد الأسد التي يبدو أنها لن تكون مؤقتة أو قصيرة، فإن ذلك يعني أن مصير سوريا قد جرت صناعته وتعليبه في سياق وصفة لم يكن مزاج الشارع السوري المطالب بالتغيير حاضراً فيها. وهو ما يعني أن سوريا في الخمس سنوات المقبلة على الأقل لن تشبه سوريا التي عرفها السوريون والعرب الذين أحبوها. بغضّ النظر عن الاعتدال الذي صار يميز لغة القيادة السورية الحالية فإن الأمور لا تستوي عند حدود اللغة. هناك دولة لها معجمها الخاص وهناك شعب لا يزال مغرماً بالحرية.
0 تعليق