نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الانتخابات البلدية... فرصة ضائعة أم استكمال للتغيير؟ - تكنو بلس, اليوم الثلاثاء 8 أبريل 2025 01:21 صباحاً
فريدي اسحاق
مع دعوة الهيئات الناخبة للانتخابات البلدية من قبل وزير الداخلية والبلديات، ومع شبه إجماع على رفض تأجيل الاستحقاق من قبل الأحزاب والقوى السياسية وعلى رأسها رئيس الجمهورية، يدخل لبنان رسمياً زمن الانتخابات البلدية.
تُجرى هذه الانتخابات بعد تأجيل متكرر، ومع ولاية للمجالس البلدية الحالية امتدت لتسع سنوات، في وقت كان عدد كبير منها إما منحلًا أو معطّلًا، ما جعل الكثير من البلدات تعيش فراغاً إدارياً وخدماتياً لسنوات.
وفيما عايشت هذه المجالس البلدية خلال ولايتها واحدة من أصعب المراحل في تاريخ لبنان الحديث، من الانتفاضة الشعبية في تشرين الأول / أكتوبر 2019 ، مروراً بتقلّبات سياسية حادّة، وانهيار اقتصادي ومالي غير مسبوق، وصولًا إلى العدوان الإسرائيلي على لبنان، ما جعل عملها محاطاً بتحديات تفوق الإمكانات المتاحة.
وتُجرى هذه الانتخابات في ظل التغيّرات السياسية التي يشهدها لبنان مع بداية العهد الرئاسي الجديد، وتشكيل حكومة جديدة تلتزم خطاب القسم والنهج الإصلاحي، والتي من أبرز تحدياتها إعادة تكوين الإدارة بدءاً من التعيينات الأمنية، المالية والقضائية وصولاً لإدارة الانتخابات البلدية لتكوين السلطات المحلية. هذه الحكومة التي تبدو اليوم وكأنها بنفسها مجلس بلدي للبنان، حيث تكاد تنحصر أولوياتها التنفيذية بمهام مثل إعادة الإعمار، وتأمين الحدّ الأدنى من الحاجات الأساسية، من ماء وكهرباء وإغاثة، بدل أن تعمل على وضع خطط وطنية طويلة الأمد ورؤية استراتيجية لمستقبل البلد، وكأنها بنفسها سلطة محلية. فعلى أي أساس ستُخاض الانتخابات والتحالفات البلدية: هل سنشهد تكراراً للنهج القديم القائم على الزبائنية والمحسوبيات والعصبيات التقليدية؟ أم أن هناك فرصة لاعتماد مقاربة جديدة تعبّر عن تغيّر المشهد السياسي، وتشكل استكمالاً فعلياً للعهد الجديد في مواكبة الاصلاحات، وحسن ترجمتها محلياً؟
بعد التفاؤل الذي رافق انطلاقة العهد الرئاسي الجديد، بات من الضرورة ترجمة هذه المرحلة السياسية على الأرض، عبر نهج إصلاحي حقيقي يطال مختلف المستويات، من الحكم المركزي إلى العمل البلدي. فمهما بلغت قوة العهد أو الزخم السياسي في مؤسسات الدولة، فإن أي مسار إصلاحي لا يقاس إلا بانعكاسه على حياة الناس اليومية. فحتى لو انتظم عمل الوزارات والإدارات المركزية وسلكت طريق الإصلاح، فإن وجود مجالس بلدية فاسدة أو غير منتجة كفيل بأن يُعطّل هذا المسار بالكامل. فالسلطة المحلية هي واجهة الدولة اليومية في حياة الناس، وأي خلل على هذا المستوى ينعكس مباشرة على المواطن فتتحوّل بذلك إلى عائق أمام أي تغيير أوسع، فتمنع وصول الإصلاح الحقيقي إلى حياة المواطن اليومية، وهي الهدف الأوّل والأخير لأي سلطة. والعكس صحيح، وحتى في ظل سلطة مركزية فاشلة، وأوضاع سياسية واقتصادية خانقة، يمكن لمجلس بلدي جيّد أن يصنع فرقاً حقيقياً في حياة المواطنين.
وأثبتت عدة بلديات ناجحة في الفترة السابقة، وفي أكثر مراحل لبنان تعقيداً، أنها قادرة على تحقيق إنجازات ملموسة رغم غياب الدعم من الدولة وانهيار المؤسسات المركزية. هذا يؤكّد أن البلديات ليست مجرّد تفصيل إداري، بل ركيزة أساسية في صناعة التغيير، ورافعة فعلية لأي إصلاح ممكن.
للوصول إلى هذه الأهداف، لا بد من تغيير المسار السابق التي كانت تُدار على أساسه الانتخابات البلدية من تحالفات ومعارك تقليدية. المطلوب من الشعب والقوى المحلية في الاستحقاق البلدي، لا يقلّ أهمية عمّا هو مطلوب من الأحزاب والقوى السياسية على مستوى الدولة. فالعمل البلدي يجب ألا يكون مساحة للمحسوبيات أو شراء الأصوات أو تسويات العائلات، فمن يطالب بالتغيير على مستوى الدولة، عليه أن يبدأ بتطبيق هذا التغيير على ذاته في أدائه المحلي في بلدته.
ومن أبرز المعوّقات أمام تصحيح المسار البلدي، هو استمرار الاعتماد على النكايات والأحقاد المتراكمة في إدارة الانتخابات، وعلى صراعات النفوذ والقوة، والتي لا تنتج إلا انقسامات حادة في المجتمع المحلي، وخصومات شخصية تُفرّق بين أبناء البيت الواحد، وتُغرق البلدات في جوّ من التشنّج لا طائل منه. في حين أن التخلص من هذه الاعتبارات الضيّقة، والاعتماد على معيار المصلحة العامة والقدرة على الانتاجية، يتيح فعلاً إمكانية الوصول إلى توافقات محلّية تُجنّب البلدات والمدن معارك انتخابية تقسيمية، فتُوحّد الجهود خلف فريق قادر على العمل والإنجاز. فالتفاهم المسبق، متى بُني على أسس سليمة، قد يكون مفتاحاً للإنتاجية والاستقرار بدل الانقسام والتعطيل.
من جهة أخرى، تكمن الركيزة الأساسية للإنتاجية والفعالية هو تشكيل مجالس بلدية متجانسة الأعضاء. فتأليف اللوائح لا ينبغي أن يكون مجرّد ائتلافات وتسويات متناقضة الرؤية والمصلحة، بهدف الفوز في الانتخابات فقط، على حساب خسارة فعالية المجالس وانتاجيتها، نتيجةً للتناقضات والتعطيل لاحقاً من داخلها. كذلك أي توافق بلدي حقيقي يجب أن يكون على الرؤية المشتركة والانسجام الفعلي بين أعضاء المجلس، لأن أي تفاهم هشّ، هدفه فقط تفادي معركة انتخابية ظرفية، قد يتحوّل لاحقاً إلى معركة داخلية تستمر لست سنوات، فتصبح البلديات ساحات لتصفية الحسابات والطموحات الشخصية. فما يُربَح من هدوء في شهر الانتخابات، قد يُدفَع ثمنه سنوات من الشلل داخل مجلس بلدي مفكّك وعاجز عن العمل.
أما الركيزة الثانية، فتتمثل في تحمّل الجهات التي دعمت اللوائح الفائزة مسؤولية أدائها ونتائج ممارستها، بحيث لا يجوز أن تتنصل من هذه المسؤولية فتُعفى من المحاسبة، كما جرت العادة بعد كل استحقاق انتخابي. وهنا تبرز أهمية دور الأحزاب في تبنّي لوائح انتخابية علنية، بحيث يكون هناك التزام متبادل بين المرشحين وهذه الأحزاب، ما يمنع التنصّل من المسؤولية لاحقاً، ويتيح للناخبين ممارسة حقهم في المحاسبة بشكل واضح وفعّال، مع ضرورة التنبه إلى بعض المرشحين الطامحين الذين قد يسعون إلى استغلال الأحزاب كوسيلة للوصول إلى المناصب فقط، من دون الالتزام الفعلي بخطها السياسي أو بتحمّل تبعات أدائهم بعد الانتخابات.
أو مثلًا، في البلديات التي تشهد تنوّعاً طائفياً، فغالباً ما تتحوّل العملية الانتخابية إلى معركة طائفية، ما يفتح الباب أمام استغلال الانتماء الطائفي لتحقيق الوصول وتفادي المحاسبة. لذلك، من الضروري إعادة النظر في تكوين بعض البلديات أو طريقة تقسيمها أو إدارة تشكيلها، بما يخفف من هذه الهواجس ويمنع استغلالها في الاتجاهات الطائفية التي تُضعف المساءلة وتعطّل العمل البلدي.
ورغم تَكرار واستهلاك الطرح، تَظلّ أهمية وجود تصوّر لبرنامج عمل بلدي أمراً أساسياً، ولو بالحدّ الأدنى، يوضّح طريقة العمل، ويُظهر الجدية. بالإضافة إلى أهمية التمتع بالنشاط البلدي والذي لا يُقاس فقط بالعمر أو الحماسة، بل بالكفاءة، والخبرة، والقدرة على إدارة الملفات، والتواصل الفعّال مع الناس.
انطلاقاً من كل ما سبق، فإن المرحلة المقبلة تتطلّب نهجاً جديداً، لا تقليدياً، يُشكّل استكمالاً لمسار الإصلاح، ويُترجم التغيير السياسي القائم إلى نتائج ملموسة على أرض الواقع. مع المحاولة لتجنيب المجتمعات خلافات عبثيّة عن طريق إعطاء فرصة للتوافق الانتخابي، شرط ألّا يكون ذلك على حساب الانسجام الحقيقي في المجالس، لأن المطلوب هو إنتاج مجالس بلدية فاعلة ومُنتجة، لا مجرّد لوائح رابحة، فتتحمّل مسؤولية العمل البلدي بجدّية ونشاط، وتسمح عملية المحاسبة بناءً على مشروع وتصور انتخابي جدي، لا يكون شعاراً يُرفع فقط عند الحاجة.
ويبقى السؤال الجوهري: إذا كان لبنان يعاني من أزمة في نظامه السياسي المركزي، وتُطرح حلول كالفدرالية أو اللامركزية الموسّعة، فهل يُمكن الرهان على هذه الخيارات إذا لم ننجح، منذ اليوم، في تشكيل وتنظيم عمل السلطات المحلية وضبط أدائها؟
0 تعليق