طيف زياد (أبي عازار) في أرجاء مدينة متخيَّلة - تكنو بلس

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
طيف زياد (أبي عازار) في أرجاء مدينة متخيَّلة - تكنو بلس, اليوم الاثنين 7 أبريل 2025 05:41 مساءً

منال عبد الأحد

 

في طليعة ما سأقوله أو أنقله لكم أعزائي أحب أن أعتذر عن سوء أمانة ما لأنني لم أرد لهذا النص أن يكون تغطية ولم أتقيّد بحرفية العمل المسرحي وعلى الأرجح أصول التغطية الفنية ومقتضياتها.

 

بعد انقطاع عن المشهد الثقافي في هذه المدينة، وبعد مضي أكثر من عام وأقل من عامين على عودتي إليها من جديد، ما زلتُ لا أجرؤ على تسميتها بمدينتي - وأخاف ألا أجرؤ يوماً على ذلك للمناسبة - قررتُ أن أترك لبعض التسلية التي أراها مثمرة أن تخترق يومياتي. كانت قد وصلتني دعوة وصفها مرسلوها بأنها "شخصية" إلى عرض تحت عنوان Stop Calling Beirut، ولأنني أعمل في مجال الدعاية والإعلان أصلاً، رحتُ أحاول أن أترجم بطريقة أردتها إبداعية اسم هذا العرض، فوجدتني أرجّح إن كانت الترجمة الفعلية هي "توقّف عن مناداة أو مناجاة أو الاتصال ببيروت" وشتّان ما بينها. أمضيتُ أكثر من ساعة أفكّر، لم يبدُ المقصود جلياً في المنشور المرسَل، لأنه جاء صراحةً عابقاً بنوع من الغموض ومفتوحاً على الاحتمالات الثلاث وربما ذهب أبعد منها.

 

وصلتُ إلى درج مسرح زقاق وأنا لا أدرك بالفعل إن كنتُ قد ارتدت هذا المكان في السابق أو أنني مررتُ بقربه وحسب، فأحياناً أجد صعوبة في تذكّر ما حدث لي فعلاً في هذه المدينة، لأن إقامتي فيها في الغالب كانت متقطّعة واعترتها خيبات جمّة. بدا المكان غريباً عمّا ألفتُه نوعاً ما، بعد أن عشتُ أكثر من نصف عمري خارج المدينة أو داخلها أخطط لمغادرتها، أي خارج سياقها الزمني والمكاني. فأدركتُ أنني لا أعرف المكان في الغالب، ورجّحتُ أنني لم أزره يوماً. ثم بعد أن أمضيتُ فيه أكثر من ساعة بقليل شعرتُ أنه يحاكي ذاتي وأنني قد زرته على الأرجح، لأنني أحسستُ وكأنني قد أمضيتُ أوقات غربتي عن المدينة داخلها أجلس على الكنبة التي احتضنت العرض. تهيّأ لي أنني في جلسة حميمة مع أصدقاء مقرّبين جداً إلى حدّ أن ملامح الممثلين ووجوههم ولغة أجسادهم بدت مألوفة جداً، وكذلك أصواتهم. فجأة استرجعت الخبر الذي طالعني في محرك البحث حين أحببتُ أن أطّلع أكثر على منجز زياد أبي عازار الإبداعي، حيث تحدّث عن العثور على جثّة شاب في الثالثة والثلاثين من العمر، على ما أذكر، جثّة هامدة في محلة الدالية في الروشة، وحسب. مرّ ذلك عابراً لدرجة أنني كرهتُ هذه البيروت التي وجدتُها ماهرة في التنكّر لأبنائها وهويتها الفعلية والأرواح التي زُهِقت فيها عمداً أو محضَ قدرٍ.

 

ركّزتُ من جديد في مجريات العرض، فبدا الممثلون الثلاثة في محاولة لأن يعكسوا مشهداً قاتماً لمدينة تربّص الموت بسكّانها عبر عقود، حين كرروا رواية المشاهد عينها تكراراً مسترجعينها من ذاكرة ما، لا شكّ أنها تكوّنت خلال عقود مختلفة وعبر صيغ مجتمعية متعددة.

 

بدت يوميات زياد شبيهة بما ألفته رغم الاختلاف الكبير في تفاصيل تجبرتينا. لم أتمكّن من التمييز بين سيارة الستايشون وسيارة أبي المرسيدس البيضاء التي كانت تطلق زماميرها ابتهاجاً عندما تتقدّم قليلاً من أجزاء بيروتية محرّمة علينا بوحشية. أحسستُ بالغربة عينها التي خبرها زياد حين تذوّق الخيار مع الملح في منزل مدرّسته حينما كنتُ أضطرُّ وقتذاك إلى المبيت خارج منزلي في أماكن غريبة عنّي، وتذكّرتُ مشهد السباحة خلسةً والإبحار بخيالي داخل بانيو في منزل جدّيي في حمامهم القروي الموصد على كلّ شيء.

 

ضحكتُ وبكيتُ مرارًاً خلال العرض، وفي النهاية، حين وقف ممثلوه أمامنا وغدرتهم دموعهم، تنبّهتُ إلى أن هذا العمل على الرغم من أنه قد أنصف زياد إلى حدّ بعيد، من خلال إضاءة وإن كانت سريعة على منجزه الإبداعي إلّا أنّها جاءت أنيقة لا تقتحم مضمون العمل المسرحي، غاص أيضاً وبعمق في واقع مدينة رسمت أقدارنا بقسوة لتتنوّع بين ميتة واحدة تقتلعنا من أنفسنا ومن عيون أحبائنا إلى ميتات يومية.

 

وواصلتُ تماهييَّ مع العرض لأتذكّر أن المياه المنسابة في الزجاج الموضوع في المقدمة شبيهة كثيراً بمشهد المطر الذي كان يهطل من شبّاك مقهى بيروتي حيث أنشغل عادة بمراقبة حركة الشارع ورقصة أضوائه. ولاحظتُ أيضاً أن الإنارة في مكان العرض لم تبدُ كهربائية البتة بل بدت ممزوجة ببريق السماء وشحوب ضوء قنديل ما، في أنٍ. وأحسستُ أن إسمنت المدينة يغتصب مدينة قديمة مختبئة فيها على الأرجح أنها فعلًا من ورق شلّعتها عواصف متتالية.

 

غادرتُ وأنا أتساءلُ في سرّي إن كانت الأم المفجوعة الجالسة بيننا هي وحسب من أنجب زياد أو أنّه ولد بالتزامن من رحم المدينة الكبير والخانق في أن.
 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق