الجوع سلاح فتاك في السودان: "النهار" تنقل استغاثة شعب يموت بصمت - تكنو بلس

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الجوع سلاح فتاك في السودان: "النهار" تنقل استغاثة شعب يموت بصمت - تكنو بلس, اليوم الخميس 3 أبريل 2025 07:12 مساءً

في قلب أفريقيا، حيث كانت الأرض يوماً تنبض بالحياة، يعيش السودان اليوم واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في العصر الحديث. الموت والجوع والتشريد أصبحت لغة يومية تحكم حياة الملايين، فيما تحولت المدن والقرى ساحات للنزوح والمعاناة.

 

أطفال يُقتلون تحت نار الصراع، وآخرون يشوهون أو يجبرون على حمل السلاح. آلاف العائلات تودع أحباءها كل يوم، ليس بسبب العنف فحسب، إنما أيضاً بسبب الجوع القاتل الذي ينهش أجساد الأطفال، اذ أصبح سوء التغذية مصيراً محتوماً لملايين الصغار وخطراً يهدد جيلاً بأكمله.

 

المجاعة ليست مجرد تهديد، بل واقع يومي يسرق أرواح الأبرياء وسط صمت العالم. لم تصل صرخة الاستغاثة إلى مسامع أحد، وما حذرت منه منظمة "اليونيسف" بات واقعاً يجب مواجهته سريعاً، وأكثر من نصف سكان السودان سيحتاجون إلى المساعدات الإنسانية. الوقت ينفد والأرواح أيضاً... يسقط الأطفال فريسة العمالة والزواج القسري والاتجار بالبشر، في ظل انهيار تام للخدمات الأساسية. المدارس أغلقت أبوابها، والمستشفيات تحولت أنقاضاً، فيما تصرخ الأمهات من هول الكارثة من دون أن تجد صرخاتهن صدى.

 

مدينة... ومرارة الفقدان والنزوح

 

لم تكن الطفلة مدينة ميسرة، ابنة الثمانية عشر شهراً، تعلم أنها ستواجه أقسى الضربات دفعة واحدة. ففي عامها الأول ونصف العام، تجرّعت مرارة الفقدان والنزوح وسوء التغذية، وواجهت خطر الموت.

 

هُجّرت مدينة من الخرطوم إلى ود مدني بعدما فقدت والدها خلال النزاع، في حين أصيبت والدتها في كتفها الأيسر، قرب قلبها. ومنذ ذلك الحين، تولت عمتها ملاذ محمد رعايتها والاهتمام بها. لكن رحلة النزوح لم تكن سهلة. فقد واجهتا تحديات قاسية، على ما تقول العمة لـ"النهار"، و"بقينا أربعة أشهر في ود مدني، لكن المعاناة الكبرى كانت في نقص الغذاء، ما أدى إلى إصابة مدينة بسوء تغذية حاد".

 

بحثًا عن الأمان، انتقلت العمة ومدينة مجدداً إلى كسلا. وهناك، في 3 آذار/ مارس 2025، أُدخلت الطفلة إلى مركز 42 الطبي، حيث خضعت للعلاج التغذوي الخارجي بعدما تراجع وزنها إلى 6.4 كيلوغرامات.

 

اليوم، بدأت مدينة تستعيد صحتها تدريجاً، وتحسّن وزنها بشكل واضح. ومع ذلك، يبقى مطلب عمتها الوحيد أن "تتوقف الحرب، ويعود السودان أفضل مما كان عليه".

 

أطفال نازحون في مركز تجمع بمدينة ود مدني بولاية الجزيرة في شرق وسط السودان (اليونيسف- 3 حزيران 2023).

أطفال نازحون في مركز تجمع بمدينة ود مدني بولاية الجزيرة في شرق وسط السودان (اليونيسف- 3 حزيران 2023).

 

كابوس مرعب

"يواجه السودان اليوم أكبر أزمة إنسانية في العالم، اذ تحوّلت الحياة كابوساً مرعباً للأطفال". بهذه الكلمات يصف المدير الإقليمي للإعلام في صندوق الأمم المتحدة للطفولة "اليونيسف" في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عمار عمار واقع السودان اليوم. ويقول لـ"النهار" إن "ملايين منهم عالقون في قبضة العنف المستمر، والجوع القاتل، والانهيار الاقتصادي، وتفشي الأمراض، والنزوح المتكرر. وفي ظل القيود الشديدة على وصول المساعدات الإنسانية، باتت حياة أعداد لا تحصى منهم في خطر".

في العام 2025، سيحتاج أكثر من 30.4 مليون شخص- أي أكثر من نصف سكان السودان- إلى المساعدات الإنسانية، بينهم 16 مليون طفل.

 

في مركز 42 الطبي بالسودان، تواصل الدكتورة سنية مختار عملها الدؤوب في عيادتها، حيث تفحص الأطفال، وتجري لهم الفحوصات الطبية، وتحدد العلاجات المناسبة لحالاتهم. وتحت إشراف مسؤولة التغذية في المركز، تسجَّل العديد من حالات سوء التغذية التي تصيب الأطفال، وتتطلب متابعة دقيقة.

 

وفي حديث الى "النهار"، تشير مختار إلى أن "عدداً كبيراً من الأطفال الذين يراجعون العيادة يعانون درجات متفاوتة من سوء التغذية، تراوح بين البسيطة والحادة، وبعضهم يحتاج إلى دخول المستشفى للعلاج الفوري".

 

يخصص المركز يومين أسبوعياً لاستقبال حالات سوء التغذية، اذ تُسجَّل باستمرار حالات جديدة إلى جانب متابعة الأطفال الذين يتلقون العلاج بالفعل. وتوضح مختار أن معظم المرضى تراوح أعمارهم بين عام ونصف عام وعامين، ما يجعل التدخل السريع ضرورياً لإنقاذ حياتهم.

 

 

ويعتمد العلاج على مدى استجابة الطفل، اذ تتم مراقبة تطوره وزيادة وزنه قبل الانتقال إلى مرحلة العلاج الداعم. وفي هذه المرحلة، يتحول نظام التغذية من اللون الأحمر (لحالات سوء التغذية الحاد) إلى اللون البرتقالي (للتغذية الداعمة). أما في الحالات الحرجة، فتتم احالة الطفل فوراً على المستشفى لتلقي رعاية طبية مكثفة ومتابعة مستمرة حتى يتحسن وضعه الصحي.

أزمة جوع متفاقمة

يواجه السودان اليوم أزمة جوع غير مسبوقة، اذ تضاعف عدد الأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد أكثر من ثلاث مرات منذ نيسان/ أبريل 2023.

 

ووفق عمار، "تشهد مناطق عدة بؤراً للمجاعة، بما في ذلك مخيمات زمزم، وأبو شوك، والسلام في شمال دارفور، إلى جانب المجتمعات المضيفة والمخيمات المخصصة للنازحين في جبال النوبة الغربية. وتشير التوقعات إلى أن خمس مناطق أخرى قد تتأثر بحلول أيار/ مايو، مع وجود 17 موقعاً إضافياً مهدداً بالمجاعة".

 

أطفال في مخيم بمقاطعة بورام في ولاية جنوب كردفان. وقد فرّوا من الجوع والحرب في عاصمة الولاية كادوقلي، وهم أيتام أو انفصلوا عن والديهم (رويترز - 2024).

أطفال في مخيم بمقاطعة بورام في ولاية جنوب كردفان. وقد فرّوا من الجوع والحرب في عاصمة الولاية كادوقلي، وهم أيتام أو انفصلوا عن والديهم (رويترز - 2024).

يعيش في هذه المناطق نحو 1.3 مليون طفل دون سن الخامسة، بينهم 683 ألفاً معرضون لخطر سوء التغذية الحاد. هذا الواقع، دفع "اليونيسف" إلى التحذير من تفاقم هذه الأزمة، وتُقدر أنه "بحلول عام 2025، سيعاني 3.2 ملايين طفل دون الخامسة من سوء التغذية الحاد، بينهم 770 ألفاً سيواجهون سوء التغذية الحاد الوخيم، وهو أشد أشكال الجوع فتكاً".

 

وعليه، في حال لم يحصل تدخل واستجابة عاجلة، فسيكون هؤلاء الأطفال أكثر عرصة للوفاة بسبب الأمراض بمعدل 11 ضعفاً مقارنة بالأطفال الأصحاء.

 

قصة أخرى تروي المعاناة نفسها

 

خسرت الطفلة عناب والدها بعد جراحة لاستئصال المرارة. لم يصمد أكثر من أسبوعين قبل أن يُفارق الحياة. داخل مركز 42 الصحي، تنتظر خالة عناب دورها لفحص ابنة اختها ومتابعة حالتها بعدما عانت من سوء تغذية شديد.

 

وتستعيد الخالة تفاصيل الرحلة القاسية التي خاضوها خلال النزوح، قائلة : "كانت رحلة نزوحنا شاقة وصعبة، لقد تعطلت السيارة واضطررنا الى المكوث يومين في الصحراء  مع قليل من الماء والطعام. ولكن الحمدلله استطعنا الخروج والوصول إلى مكان آمن".

 

ورغم كل ما مرت به، بدأت عناب اليوم تستعيد عافيتها تدريجاً، اذ اكتسبت بعض الوزن وتواصل تلقي الرعاية الصحية إلى أن تستعيد صحتها بالكامل.

 

في مركز 42 الصحي في السودان.

في مركز 42 الصحي في السودان.

وعن أسباب سوء التغذية التي أدت إلى تفاقم الحالة بشكل خطير في السودان، تقول الدكتورة سنية مختار  إن هناك عوامل كثيرة لعبت دوراً في تفاقم الوضع، أولها الحرب والنزاعات التي تشهدها البلاد، إلى جانب غياب التغذية عند الأم المرضعة أو الحامل، وغياب التنظيم عند الأسرة، اذ تكون الأم ترضع، وفي الوقت نفسه حاملاً، ما يؤدي إلى نقص في الحصول على الفيتامينات والمعادن الأساسية، من دون أن ننسى أن المنطقة تعاني من الفقر والاقتصاد المتدهور الذي يؤثر في نوعية التغذية.

 

لا تنسى مختار حالة طفل كان يعاني سوء تغذية حاداً، وكانت حالته الشديدة تتطلب نقله الى المستشفى بشكل فوري. وتتذكر جيداً أنه "كان يعاني من ورم في جسمه وتشقق في جلده وانقطاع الشهية وأعراض صحية أخرى فرضت إدخاله إلى المستشفى لإنقاذه. أما باقي الحالات، فتعتبر أخف حدة ويمكن متابعتها في المركز من خلال تزويدها الأمصال الغذائية والتوصيات اللازمة لزيادة وزنها".

 

ليست سوء التغذية واقعاً جديداً، ولكن مضاعفاته وتداعياته قد تشكل حالة طارئة وخطيرة. فسوء التغذية الحاد قد يُسبب نقص المناعة وعدم نمو ومشاكل صحية خطيرة قد تصل إلى الوفاة.

 

3 ملايين طفل يعانون من سوء التغذية

 

"يواجه أطفال السودان معاناة قاسية ومتعددة الوجه، إلا أن أكثرها انتشاراً وخطورة هو حالات سوء التغذية، التي تسجّل ارتفاعاً مستمراً وفق الإحصائيات المتاحة". بهذه الكلمات تصف إسلام اسماعيل، مرشدة تغذية في وزارة الصحة، واقع السودان اليوم. في رأيها يعود السبب الرئيسي لهذا التدهور إلى الحرب، التي خلّفت آثاراً مدمرة على مختلف فئات المجتمع، لا سيما منها النساء والأطفال.

منذ شهر، كان هناك نحو 49 طفلاً يعانون من سوء تغذية. إلا أن هذا الرقم انخفض إلى 21 حالة وجميعها تتلقى العلاجات المطلوبة.

 

مرشدة تغذية بوزارة الصحة إسلام اسماعيل.

مرشدة تغذية بوزارة الصحة إسلام اسماعيل.

 

 

ومع ذلك، تشير اسماعيل إلى أن معدل سوء التغذية في ازدياد مخيف، وقد تصل نسبة الوفيات بين الاطفال المصابين بسوء التغذية إلى 15 في المئة. ووفق الأرقام التي بحوزتنا، يعاني نحو 3 ملايين طفل من سوء التغذية، بينهم 700 ألف  يعانون من سوء التغذية الشديد الحاد ويحتاجون الي علاج فوري.

 

تعدّ مناطق النزاع والولايات غير الآمنة الأكثر تضرراً، اذ تتفاقم معدلات سوء التغذية إلى مستويات خطيرة، في ظل ندرة الموارد وانعدام الاستقرار. أما في المناطق الأكثر أمناً، فتمثل فئة الأطفال النازحين النسبة الأكبر من المصابين بسوء التغذية، بينما تظل معدلات الوفيات الناجمة عن هذه المشكلة أعلى في مناطق الصراع، نظراً الى انعدام الخدمات الصحية والإغاثية".

 

قوارب العبور من الرنك إلى ملكال (أ ف ب - 20 شباط 2024).

قوارب العبور من الرنك إلى ملكال (أ ف ب - 20 شباط 2024).

 

وما يثير قلق عمار هو أن الأطفال لا يواجهون العنف المباشر فحسب، بل يتعرضون أيضاً لتهديدات متزايدة ناجمة عن مخلفات الحرب المتفجرة، وعمالة الأطفال، وزواج القاصرات، والتجنيد القسري على يد الجماعات المسلحة. كذلك التعرض المستمر للصراع، وفقدان أفراد الأسرة، والنزوح القسري، خلّفت آثاراً نفسية عميقة، اذ يعاني العديد من الأطفال من القلق والاكتئاب واضطرابات سلوكية مرتبطة بالصدمة.

 

من جهتها، ترى اسماعيل أن "استمرار الوضع الحالي من دون حلول جذرية ينذر بكارثة إنسانية غير مسبوقة، بخاصة في ظل غياب اتفاق شامل يوقف نزف الدم السوداني وينقذ أرواح الأطفال الأبرياء. ورغم جهود المنظمات الإنسانية في تقديم المساعدات، فإن تدخلها لا يزال دون المستوى المطلوب لمواجهة حجم الأزمة".

 

مستقبل جيلٍ كامل على المحك

 

تُعد القيود الشديدة على وصول المساعدات الإنسانية، بخاصة عبر الحدود وخطوط النزاع، من أكبر التحديات في السودان. ولا يُخفي عمار أن العقبات البيروقراطية، والعنف المستمر، وعمليات نهب الإمدادات الإنسانية، أدت إلى جعل إيصال المساعدات المنقذة للحياة مهمة صعبة جداً. كذلك أدت حدة القتال والهجمات التي تستهدف العاملين في المجال الإنساني، إلى شلّ جهود الإغاثة بشكل شبه كامل".

 

وفي ظل غياب ممرات إنسانية آمنة واتفاقات متبادلة بين الأطراف المتحاربة، لا تملك منظمات الإغاثة خياراً سوى البحث عن ضمانات أمنية بصورة موقتة، مما يؤدي إلى انخفاض حاد في تدفق المساعدات. والنتائج كارثية، إذ تشهد المناطق التي بقيت محرومة من المساعدات الإنسانية لأشهر عدة تدهوراً سريعاً في الأمن الغذائي وتفشي سوء التغذية على نطاق واسع.

 

يواجه السودان كارثة تمتد عبر الأجيال، ولا يمكن الأطفال الإنتظار أكثر. ويؤكد عمار أنه "على رغم الجهود الحثيثة التي تبذلها اليونيسف وشركاؤها للوصول إلى الأطفال وعائلاتهم، فإن هذه الجهود لا تزال غير كافية لإنقاذ الأرواح ومنع مزيد من المعاناة. لذلك نحتاج إلى تدخل عاجل لضمان وصول ساعدات إنسانية من دون تقييد، وتأمين ممرات إنسانية لضمان إيصال هذه المساعدات، واحترام القانون الدولي وحقوق الإنسان، وزيادة التمويل لتوسيع نطاق الإستجابة الطارئة، والأهم الوقف الفوري للأعمال العدائية".

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق