نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
"البطل" دراما سورية متألقة توثّق مأساةَ الإنسان وتكمل مشروع ممدوح عدوان - تكنو بلس, اليوم الثلاثاء 1 أبريل 2025 06:23 مساءً
منذ الحلقات الأولى لمسلسلِ "البطل"، يُصدَم المُشاهدُ العربي بجرعاتٍ مكثّفة من الوجع، مما يجعلهُ يشعر بأنّه أمام عملٍ درامي كبير يستحقُ كلّ لحظة من المتابعة. بدءاً من كادراتِ القريةِ في ريف اللاذقية، التي تشبهُ قرانا النائية والمهمّشة، بطرقها المتهالكة وبيوتِها العتيقة، وظروفها القاسية، إلى مشاهدِ النزوح والتهجير التي تصفعُ الذاكرة، وتعيد إلى الأذهان أحداثاً واقعية عرضتها نشراتُ الأخبار؛ مشاهد كهذه لا تقتصر على سوريا وحدها، بل رأيناها في جنوبي لبنان وفي غزّة. هذا المسلسل الذي كتبه رامي كوسا وأخرجه الليث حجو يجمع نخبةً من الأسماء البارزة في بطولة جماعية، تضمّ بسام كوسا ومحمود نصر ونور علي وهيما إسماعيل وخالد شباط، ليس عملاً يروي المأساةَ السورية فحسب، بل يروي مأساةَ الإنسان الواحدة في كلّ مكان، كل من وجد نفسه مجبراً على مواجهةِ قدر الحرب، والتمسك بالحياةِ رغم أخطارها ومصاعبها وخساراتها.
في مسلسل "البطل"، يكملُ المخرج السوري الليث حجو مشروعَ الكاتبِ الكبير ممدوح عدوان، مستلهماً فكرته من مسرحيةِ "زيارةِ الملكة"، ليقدّمَ عملاً درامياً يتحوّل إلى وثيقة تاريخية يمكن للأجيالِ القادمة العودة إليها. ممدوح عدوان الذي رحل عن عالمنا عام 2004، كان ليفخرَ بهذا الاقتباسِ من مسرحيته لو كان بيننا اليوم، ولعلّ هذا المسلسل هو أجمل إهداءٍ يمكن أن يهدى إلى روحه، امتناناً من صنّاع العمل لنبلِ قضاياه.
بوستر مسلسل 'البطل'. (شاهد)
عالجَ الليث حجو ورامي كوسا تيمة الحرب بذكاء لافت، محافظين على حيادٍ نبيل يسعى إلى الجمع بدلاً من التفرقة. فالمسلسل يصوّر الغارات على القريةِ المجاورة، من دون أن يحدّد الجهة المسؤولة، ويعرض المواجهات المسلّحة من دون الإشارة إلى الأطراف، تاركاً للمشاهدِ مهمة الاستنتاج، ومتجنّباً أيّ انحياز قد ينتقصُ من قيمةِ العمل، الذي همّه الأوّل أن يصفَ تداعيات الحرب الوخيمة، وتأثيرها على حالِ الإنسان، وعلى خياراتهِ وسلوكهِ. مع ذلك كشفَ حجو في مقابلةٍ له مع قناة "العربية" عن أنّ النص تعرّض لرقابة شديدة ومتعنّتة نظراً إلى كونه مشروعاً ينظرُ إليه على أنّه مكتوبٌ بلغة المعارضة.
تتجلى آثار الحرب في تفاصيل الحياةِ اليومية، كاضطرار الشخصياتِ إلى انتظار عودة الكهرباء لشحن هواتفها، وتسخين المياه للاستحمام، والمضاربة على السلع الأساسية التي لا تصل إلاّ مهرّبة من لبنان، كما يرصد الفساد المتغلغل في الدوائر الحكومية، حيث يُبتز الموظفون ويُدفعون دفعاً نحو الرضوخ، فيما تقتحمُ جماعات مسلّحة البيوت، وتروّع السكّان وتتمادى إلى إحراقِ الأراضي لبيعها بأبخسِ الأثمان.
ولعلّ أكثر ما يميّز هذه الدراما هو العنف النفسي الذي لم يعتمد على مشاهد بصرية صادمة، بقدر ما غاص في أعماق المأساة الإنسانية والصراعات الداخلية، ليدفع المشاهد إلى التفاعل مع الشخصيات والشعور بآلامها، إذ صوّرت الأحداث بعدسة واقعية جعلت الممثلين يتحرّكون بتلقائية داخل المشاهِد كأنّهم لا يؤدون أدواراً بل يعيشونها حقاً. نرى الممثلة هيما إسماعيل تتنقل بين الغرفِ والمطبخ وكأنّها في منزلها، ونور علي مستلقية على سريرها كما لو لم يكن أحد يقوم بتصويرها، وحتى وسام رضا في مشهد نومِه بفم مفتوح وساق مثنية، بدا كما لو أنّه غارق في النومِ بالفعل؛ كل هذه التفاصيل الدقيقة عزّزت من مصداقية العمل، مما جعل المشاهد يشعر وكأنّه يراقبُ حياةً حقيقية.

الممثل السوري بسام كوسا في 'البطل'. (شاهد)
تتفاوتُ معاناة الشخصيات في هذا العمل، حيث يحمل كلّ فردٍ جرحه الخاصّ وظروفه القاسية. فالأمّ (هيما إسماعيل) توازن بين مسؤوليات عملها وأعباء أسرتها، فيما يواجه الأب يوسف (بسام كوسا) صراعاً جديداً بعد الحادث الذي قلب حياته. والابنة مريم (نور علي) تضحّي بأحلامها في السفر والارتباط بحبيبها لأنّها عاجزة عن التخلّي عن أسرتها في أشدّ الأوقاتِ قهراً. ومن الضيعةِ المجاورة هنالك سلافة، التي تلعب دورها نانسي خوري، أم نازحة، تركها زوجها مهاجراً إلى ألمانيا، لتجد نفسها وحيدة في مواجهة مصير مجهول مع صغيرها الرضيع. أمّا محمود نصر فيجسّد شخصيةَ فرج، الشاب الفقير الذي نبذه أهل القرية لأنّه ولد في السجن بعد أن قتلت أمّه والده، ليجد نفسه يسعى إلى إثباتِ ذاته، متأثراً بالأستاذ يوسف.
بسام كوسا ومحمود نصر وثنائية الخير والشرّ
يجسّدُ بسام كوسا دور البطل الخيّر، رجل نبيل، معلّمٍ ومدير مدرسة، يحظى بتقدير الأهالي، يتمسّك بمبادئه وقيمه رغم كل ما تجلبه له من متاعب. رجل معروف بحكمته، لا يتواني عن تقديم المساعدة لأهل ضيعته، حتى وسط الحرب والمرضِ والمعاناة، في المقابل هنالك فرج الدشت، الذي يؤديه ببراعة محمود نصر، شاب بسيط وفقير، بدا في البداية وكأنّه بلا هدف سوى الارتباط بحبيبته راما.
يمثل محمود نصر شخصيةٍ مركبة ونامية وشديدة التعقيد، إذ يظهر فرج بوجهِ الطيب، الخدوم، الذي يبادر ويسارع إلى مساعدة الآخرين مقتدياً بالأستاذ يوسف، الذي يرى فيهِ بوصلة العدالةِ والحكمة، يحبّه حباً خاصاً، ليس كمعلّم فقط، ولكن كنموذجٍ للرجل الحقيقي الذي ينبغي له أن يحتذي بهِ ويكونَ نسخةً عنه، لدرجةِ أنّه في كلّ موقفٍ ينحرفُ فيهِ عن الخير، كان يشعر بالخجل وبأنّه غير قادرٍ على النظرٍ في عينيه مباشرةً. لكنّ المنعطف الذي غيّر فرج من الوجهِ الطيب إلى الوجهِ الشرّير، ومن شابٍ نبيل إلى وحشٍ قاسٍ بلا رحمة لم يتمثّل في الظروفِ فحسب، بل بالفعل نفسه، فعلُ القتل... تبدأ رحلته من تهريب الأغذية والأدوية، إلى البنزين والمخدرات، ثم يصل به الأمر إلى تهريب الراغبين في الهجرةِ من سوريا. القتل إذن كان السبب الرئيسي في أن يحوّل إنساناً طيباً إلى مسخ شرّير، وكأنّ العمل يعالج فكرةً نفسيةً عميقة، فكرة أنّ الإنسان إذا قتل، لا يمكنه أبداً أن يعود إلى ما كان عليهِ، فبعد فعلِ القتل، يصاب فرج بالحمّى والاضطراب، والحزن والكآبة، لكنّه ما يلبث أن يعتاد، فتتحوّل الحساسية إلى قسوة والارتباكَ إلى جفاء.

الممثلة السورية نور علي في 'البطل'. (شاهد)
نهاية قوية للبطل
ينتهي مسلسل "البطل" نهايةٍ مؤثرة تجمع ما بين دموع الحزن والفرح. تبدأ الحلقة الأخيرة بمشاهد قاسية تروي رحلة تهريب النازحين الذين سيصبحون لاجئين إن قدّرت لهم النجاة. نشاهدهم في شاحنة مزدحمة، بأعمارٍ متفاوتة، بوجوههم المتعبة والخائفة، بينما تنطلق الشاحنة وسط دموعِ من ودّعوهم، لنتذكر كل الهاربين من الموتِ إلى موتٍ آخر محتمل، وتنتهي الحلقة بمشهد سقوط نظامِ بشّار الأسد، بعد سنوات من الحرب، مع إطلاق النار على بوابات السجون لتحرير المعتقلين. مشهد مؤثر يعكس واقعاً مؤلماً كنّا شاهدين عليه منذ فترةٍ قريبة، إذ رأينا سجناء سوريين محتجزين منذ سنوات، منهم من فقدَ عقله، ومنهم من فقد ذاكرته ولم يتمكن حتى من تذكر اسمه، ومنهم من فقد القدرة على النطق، ومنهم من فقد الأمل في الحرية.
0 تعليق