نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
إلى معالي الوزيرة الدكتورة ريما كرامي - تكنو بلس, اليوم الجمعة 23 مايو 2025 09:35 صباحاً
أستاذ وباحث في قضايا التربية والفكر الإنساني
بادئ ذي بدء، أهنئك من القلب على تولّيك وزارة التربية والتعليم العالي، لا فقط لأنك تملكين سيرة علمية محترمة، بل لأنك امرأة في موقع القرار، في زمنٍ يحتاج إلى جرأة النساء في إعادة بناء ما تصدّع من قيمنا ومؤسساتنا، وعلى رأسها التربية. وجودك في هذا الموقع يبعث على الأمل بأن شيئًا جديداً قد يُكتب لهذه البلاد من خلال التعليم، لا من خلال الخطابات.
أكتب إليك من موقع التجربة، لا من وراء مكتب أو تنظير. من قلب المدرسة التي عشت فيها أكثر من خمسة وعشرين عاماً، أستاذاً رأى أجيالاً تكبر أمامه. بعضهم حمل معه حبّ المعرفة، وبعضهم مضى مثقلاً بالملل أو الحيرة أو الغضب. رأيت مدارس تنهض رغم كل شيء، وأخرى تُطفئ نورها يوماً بعد يوم، تحت وطأة الإهمال، والجمود، والتكرار.
أنا لا أكتب إليك لأستعرض مصاعب تعرفينها، بل لأشاركك ما بقي في القلب من إيمان بأن المدرسة يمكن أن تتغيّر، وأن التعليم ما زال بوابةً نلج بها إلى مجتمع أفضل، إن نحن منحناه روحه من جديد. التعليم، في جوهره، علاقة إنسانية لا تُقاس بالعلامات ولا تُختصر بالمناهج. التعليم هو أن نرافق الطالب وهو يكتشف نفسه والعالم، لا أن نضغطه داخل قوالب صُممت لعصرٍ مضى.
المناهج التي نُدرّس بها اليوم مرّ عليها أكثر من عقدين، تغيّر خلالها كل شيء في العالم من حولنا، لكنّ المناهج بقيت على حالها. لا تزال تعتمد الحفظ والتلقين، وتخنق فضول الطالب بدل أن تحييه. نتعبه بكثرة التفاصيل، ونُهمِل حاجاته العاطفية والفكرية. أين هي المختبرات؟ أين المسرح، والرسم، والموسيقى؟ أين المساحات التي تسمح له أن يكون ذاته؟ صرنا نُعلّمه كيف ينجو من الامتحان، لا كيف يعيش.
أناشدك أن تبدئي من هنا: من روحية المناهج، من جعلها أكثر حياة، أكثر حرية، أكثر إنسانية. لماذا لا نتيح للطالب، منذ الصف العاشر، أن يختار بعض المواد بحسب ميوله؟ لماذا نفرض على الجميع مواد لا تهمّهم، كأنهم نسخ متشابهة؟ من الضروري أن نعتمد هيكلًا مرنًا، يسمح بالاختيار، مع الحفاظ على أساسيات مشتركة.
كما نحتاج إلى مواد جديدة تواكب العصر: البرمجة، التفكير النقدي، الصحة النفسية، التربية الجمالية، القانون المدني، مهارات التواصل، ريادة الأعمال، والتربية البيئية. نحتاج إلى أن نُدرّب الطالب لا فقط على النجاح الأكاديمي، بل على الحياة، وعلى العيش مع نفسه ومع الآخرين.
أما التقييم، فقد بات بحاجة إلى ثورة حقيقية. لا يكفي أن نقيس الذكاء والجهد بورقة واحدة في نهاية العام. الطالب ليس رقماً. لماذا لا نعتمد تقويماً تشاركياً شاملًا، يتضمن مشاريع، عروضاً، أبحاثاً، مشاركة صفية، ومتابعة مستمرة؟ نحتاج إلى إعادة الاعتبار للصف كمكان حياة، لا كمجرد قاعة.
الامتحانات الرسمية، على شكلها الحالي، لا تفي بالغرض، بل أحياناً تظلم أكثر مما تُنصف. كيف نُرغم الطالب الأدبي على اجتياز امتحان في الفيزياء؟ ولماذا يُحاسب محبّ التاريخ على قوانين الكهرباء؟ نحتاج إلى نظام تقييم تخصصي، عادل، يختبر الطالب في مجاله، ويتيح له تقديم مشروع تخرّج أو بحث تطبيقي، يُعبّر فيه عن ذاته لا عن خوفه.
أعلم أن الطريق طويلة، وأن العراقيل كثيرة. لكنني أؤمن، بكل بساطة، أن البداية ممكنة، حين نبدأ من الإنسان لا من النظام، من الإصغاء لا من الأوامر، من الإصلاح التدريجي العميق لا من الحلول السطحية السريعة. لا نريد تعليمًا نُفاخر به في المؤتمرات، بل تعليماً يُثمر في حياة الناس.
أنا على يقين بأنكِ تدركين حجم المهمة، وربما تشعرين بثقلها، لكنّني أؤمن أنّ امرأة جاءت من بيئة مقاومة وشعبية تعرف تماماً كيف تُقاوم من أجل الكرامة، وأي كرامة أقدس من كرامة التعليم؟
أضع بين يديك هذه الكلمات، لا كمقال نقدي، بل كنداء مشترك. فأنا، ككثير من المعلمين، ما زلت أؤمن بأن المدرسة يمكن أن تكون أجمل مكان في الوطن، إن صارت أكثر عدلاً، أكثر فنّاً، أكثر حباً.
0 تعليق