نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
كانّ 78 – "لا وجود للموت": أين تبدأ الثورة وأين تنتهي؟ - تكنو بلس, اليوم السبت 17 مايو 2025 06:48 مساءً
غير أن مانون، صديقتها ورفيقة دربها، لا تلبث أن تلاحقها كظلّ، حاملةً إليها عرضاً جديداً وفرصةً ثانية. بين العنف والصمت، بين الفعل والخذلان، تجد إيلين نفسها وجهاً لوجه مع ماضيها، ومع أسئلتها الوجودية الكبرى. وإذا أُتيحت لها فرصة أخرى، فإلى أي مدى ستكون على استعداد للذهاب دفاعاً عن مبادئها؟
هذه هي الخطوط الرئيسية التي يقترحها فيلم التحريك الكندي "لا وجود للموت" لفيليكس دوفور لابيريير، المعروض ضمن برنامج "أسبوع صُنّاع الأفلام" في الدورة الثامنة والسبعين من مهرجان كانّ السينمائي (13 - 24 أيار). إيلين ورفاقها يطمحون إلى قلب موازين الواقع، إلى إشعال شرارة تُلهب ستاتيكو النظام القائم. غير أن المسافة شاسعة بين الشعارات المعلّقة على جدران غرف المراهقين والطموحات المرجوّة، بين الأهداف المرسومة والواقع العنيد.
الثورة، حين تكون فكرة، تبدو ملهمة ونقية. لكن، ماذا عن تجلّياتها على الأرض؟ وماذا عن الثمن؟ هل العنف وسيلة مجدية، ولو جزئياً، لفكّ أسر المأزق القائم؟
ثوّار ضد الأغنياء.
يسائل الفيلم: أين تنتهي ارتدادات العنف؟ وما الذي يخلفه في أعقابه؟ من يُشعل الشرارة هل يملك السيطرة الكاملة على النيران التي يطلقها، أم أن الأمور تفلت من يده في اللحظة التي تتحرّر فيها؟ ثم يأتي ذلك الوعي اللحظي، الصادم أحياناً: ماذا لو اكتفينا بما لدينا؟ ومع توالي المشاهد، يتحول الفيلم إلى بيان مؤسس عن التزام قضية، مهما يكن ثمنها باهظاً، وعن شعور ثقيل بالمسؤولية تجاه المستقبل الذي يتكوّر في الأفق وينتظر مَن يصونه.
اختار المخرج لابيريير صوغ فيلمه كحكاية تراجيدية تتخلّلها عناصر خيالية، تمنح السرد عمقاً داخلياً، كاشفةً عن التردّدات والهواجس التي تمزّق الشخصيات من الداخل. في الملف الصحافي للفيلم، يقول: "أعتقد أنني أسقطتُ جزءاً كبيراً من شكوكي، ومن قناعاتي وتناقضاتي، على شخصيات إيلين ومانون، والسيدة العجوز، تلك التي وُضعت هدفاً للهجوم، لكنها في الوقت ذاته تمثّل تلك السيدة الوجه الآخر لإيلين، نقيضها الذي لا ينفصل عنها".
هذه الأسئلة وأكثر، يطرحها الفيلم من دون أن يدّعي تقديم إجابات جاهزة. في لحظات، يبدو كأنه يلامس فكرة الثورة المضادة، أو حتى الاستسلام، لكنه في الجوهر يطرح تساؤلات لا بد أن نواجهها، خاصةً إن كنّا نؤمن بالتغيير من خلال المواجهة. لعلّه يدفعنا إلى إعادة النظر في استراتيجيات أثبتت محدوديتها في مواجهة الواقع الصلب.
فيلم متخم بالأسئلة، عن الذات والوسائل والغايات. ذكّرني بذلك القول المنسوب إلى أكثر من كاتب، بصيغه المختلفة:
"إذا لم تكن شيوعياً في العشرين، فأنت بلا قلب. وإن كنت لا تزال شيوعياً في الأربعين، فأنت بلا عقل". انه فيلم عن الضياع الحالي، انطلاقاً من استحالة اللجوء إلى العنف، واستحالة القبول بالوضع القائم.

الحيوانات في الغابة أكثر من مجرد زينة.
معظم مشاهد الفيلم يدور حول ملاحقة مانون لإيلين، في رحلة أقرب إلى مطاردة وجودية منها إلى صراع جسدي. مانون لا تريد فقط اعادة إيلين إلى الخطّ، بل تسعى لإجبارها على اتخاذ موقف حاسم: "عليكِ أن تختاري، وإلّا اختار الآخرون عنكِ". هذا المبدأ البسيط، لكن العنيف، يضع إيلين أمام مأزق الوجود في عالم لا مكان فيه للحياد.
ينطلق الفيلم من كليشيه يبدو مألوفاً: "الأغنياء الأشرار الذين يتحكّمون بنا نحن الضعفاء". لكنه لا يكتفي بذلك، بل يتجاوزه إلى مساءلة دور الضحية نفسها، وتحميلها قسطاً من الذنب. إحدى شخصيات الفيلم تلخّص هذا الاتجاه بوضوح: "كلّ هؤلاء الأغنياء وأصحاب النفوذ، ليسوا سوى الجزء الظاهر من مأساتنا. المشكلة الحقيقية تكمن في ما نخفيه داخلنا، في ضعفنا، في خوفنا، في عارنا. هذا هو الجوهر الذي لا نواجهه".
لا تظهر الحيوانات كمجرد عناصر تزيينية أو خلفية طبيعية، بل تحمل في حضورها دلالات. فالطائر الطنّان، على سبيل المثل، يأتي هشّاً، سريع الزوال، عصيّاً على الإمساك. أما العصفور، فيمثّل عودة الروح، استعادة النفس، وبصيص الأمل الذي ينبثق بعد طول انطفاء. في المقابل، الذئاب والخراف تجسّد الثنائية الأزلية بين المفترس والفريسة، في لعبة مطاردة لا تنتهي، كما لو أنها تكرار دائم لمعادلة الحياة والنجاة. لكن حضور الحيوانات لا يتوقّف عند البُعد الرمزي فحسب، بل يمنح الفيلم جسداً نابضاً، ملموساً، مكوناً من لحم وعضل، من هروب وملاحقة، من رغبة فطرية بالحياة. إنها تضفي على الفيلم بعداً حسياً، غريزياً، يعكس شدّة التوتر بين البقاء والاندثار.
رغم التنقّل الدائم للفيلم بين الأمكنة، لا سيما في الغابة، حيث تتجسّد الهواجس والأفكار في هيئة وحوش مفترسة، فإنه يقدّم وجبة فلسفية ثقيلة تتجاوز حدود السرد المباشر. مانون، في هذا السياق، ليست مجرد مطاردة خارجيّة؛ إنها تمثّل ضمير إيلين، تجسيداً لما تهرب منه: الذات والآخر في آنٍ واحد، السائلة والمُدانة. إيلين ليست سوى صورة منّا جميعاً، بضعفنا واصرارانا وتخبطاتنا واستسلامنا: نثور ونغضب، لكن نتردّد عند لحظة الحسم، لأسباب لا يختصرها الخوف وحده. هناك تردّد أخلاقي، هشاشة داخلية، وقلق وجودي لا يُفصح عن نفسه بسهولة.

المخرج الكندي فيليكس دوفور لابيريير.
ورغم المواجهة المكشوفة بين الشخصيتين، ينسج الفيلم فراغاً عاطفياً يتسلّل بين المشاهد: شعور بالتيه، بالارتياب، بانعدام الأفق. إلى حد أننا، عند النهاية، نجد أنفسنا نتعاطف مع السيدة العجوز التي تطالب الفرقة الثائرة بتصفيتها. فهي ستبدو لنا أكثر اتزاناً، أكثر واقعيةً، وربما أكثر صدقاً. تقول لإيلين جملة توجز الكثير:"أنتِ لا تعرفين ما تفعلين بالخوف. ولا أنا، في المناسبة!". هي لحظة نادرة من وحدة المصير بين المعتدي والمعتدى عليه، بين من يملك القدرة على إيذاء الآخر، ومن لم يعد يعرف كيف يدافع عن نفسه.
يروي فيليكس دوفور لابيريير ان هذا الفيلم كتبه وهو يفكّر في ابنته وابنه، وقد أسقط على مستقبلهما، الذي لا يزال مفتوحاً على جميع الاحتمالات، كلّ ما يخالجه من شكوك وهواجس وآمال كبيرة تسكنه وترافقه. وضع فيه شيئاً من ذاته: تساؤلاته الخاصة، ولاءاته وتردّداته، تنازلاته وجرأته، واقتناعاته، سواء كانت بسيطة أم عميقة. حاول أن يجعل من الفيلم انعكاساً لقلق حقيقي، لكن مشبّع بالحبّ في الوقت نفسه. أراده فيلماً عن الصداقة، الإخلاص والروابط التي تمنح الإنسان معنى، حتى في أكثر اللحظات اضطراباً. يقول: "سؤال مشروعية العنف، مسألة اللامساواة وقضية الالتزام والراديكالية تبرز اليوم كإشكاليات في غاية المعاصرة. فنحن نشهد محاولات لإعادة تشكيل الأنظمة القائمة، وتغييرات عنيفة في بعض البلدان. وللأسف، يعاود العنف الظهور، أو يصبح مرئياً من جديد، أحياناً في أماكن كانت تعتقد أنه بات حكراً على غيرها“.
0 تعليق