الألماني بيرند برونر يرصد "الليل" في رحلة فكرية بين الماضي والحاضر - تكنو بلس

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الألماني بيرند برونر يرصد "الليل" في رحلة فكرية بين الماضي والحاضر - تكنو بلس, اليوم الأربعاء 7 مايو 2025 06:53 مساءً

في كتابه "الليل: عالم موازٍ"، يأخذنا الباحث الألماني بيرند برونر في رحلة فكرية عبر الليل، ليس فقط كظاهرة طبيعية، بل أيضاً كعنصر أساسي في الثقافة الإنسانية، قديماً وحديثاً، ويكشف من الأساطير القديمة إلى الفنون الحديثة، ومن الخرافات الشعبية إلى الحقائق العلمية، كيف يؤثر الليل في الإنسان.

يستعرض برونر في كتابه الصادر حديثاً عن "دار العربي للنشر والتوزيع" في القاهرة بترجمة لمحمد رمضان، العلاقة بين الظلام والنور، وكيف أن الليل أصبح مصدراً للإلهام والمخاوف على حد سواء. ومن خلال تحليله العميق للأدب، والفن، والمجتمعات، يفتح أمامنا أبواباً جديدة لفهم كيف نعيش في عالم نصفه مظلم. ونحن ننتقل بين فصول الكتاب، سنكتشف كيف أن الليل ليس مجرد غياب للضوء، بل هو عالم مواز مليء بالأسرار، والأفكار غير المرئية والطموحات المكبوتة. والكتاب في مجمله هو دعوة إلى التأمل في أعماق الظلام، لاستكشاف جماله وخطورته وآثاره النفسية التي لا تحصى. ويأتي هذا الكتاب ضمن سلسلة كتب لبرونر تتميز بأسلوب يجمع بين لغة الأدب، واللغة العلمية، منها "القمر في التاريخ والأساطير وأثره على النساء"، و"فن الاستلقاء"، و"الشتاء: تاريخ وفلسفة الفصل الأكثر غموضا".

سرد النائم 
يتصدر الكتاب اقتباس من العالم الألماني جورج كريستوف ليشتنبرغ: "إن تاريخنا بأكمله هو مجرد تاريخ للإنسان اليقظ؛ لم يفكر أحد من قبل في سرد الحكاية من منظور شخص نائم". وذكرتني هذه المقولة برواية الكاتب المصري طارق إمام "طعم النوم" التي تسرد بطلتها أحداثها وهي نائمة. وبالتالي فقد تحققت في هذا العمل الأدبي مقولة ليشتنبرغ، علما أنه يتقاطع مع عملين أدبيين شهيرين هما "جميلاتي النائمات" للياباني ياسوناري كواباتا، و"ذكرى غانياتي الحزينات" للكولومبي غابرييل غارثيا ماركيز، وكذلك وبصفة أساسية مع حكايات "ألف ليلة وليلة"، باعتبارها النموذج السردي العظيم الأثر، شرقاً وغرباً، بالذات في ما يتعلق بتيار العجائبية.

 

كتاب 'الليل: عالم موازٍ' للباحث بيرند برونر.

 

يبدأ بريند من لحظة غياب الشمس، أي وقت الشفق؛ حيث "يمكن رؤية درجات اللون الأحمر والأصفر والبرتقالي، التي يسببها سقوط الضوء على طبقات مختلفة من الهواء في الغلاف الجوي"، وهنا يتذكر السارد مقطعاً من "أغاني البراءة والتجربة" لوليام بليك: "تغيب الشمس في الغرب، ويلمع نجم السماء، الطيور نائمة في أعشاشها، وأنا ذاهب نحو عشي، يجلس القمر بهدوء في حقول السماء، ببهاء صامت، ويبتسم في اللليل" (ص 11). أما الروائي والشاعر الإنكليزي توماس هاردي فيصف في روايته "بعيداً عن الحشد الصاخب"، شعور شخص "يقف بمفرده فوق تل في منتصف الليل الصافي" تجاه دوران الكرة الأرضية، فيجد نفسه أمام تجربة ملموسة تقريباً؛ "ربما يكون هذا الشعور ناجماً عن بانوراما النجوم التي تتجول فوق الأرض، أو ربما يتعلق الأمر أيضاً بالرؤية التي لا حد لها عبر التل مع الريح، أو الشعور التام بالعزلة". على أي حال، يضيف هاردي، فإن الانطباع بأن الإنسان مهمش، أيا كان السبب، "هو انطباع واضح للغاية ولا يمكن دحضه"، في سياق تلك التجربة الليلية.

طاقات تأملية
يتألف الكتاب من 35 فصلاً (216 صفحة من القطع الوسط). الفصول قصيرة، ومن ثم فإن إيقاعها سلس، وهي تبدأ بـ "طبيعة الليل"، وتختتم بـ "عند شروق الشمس"، وكأننا بصدد رحلة تشمل الليل من بزوغه مزيحاً النهار، إلى انسحابه، مفسحاً المجال لنهار جديد. ولكن هل يمكن أن يحل الليل في النهار؟ الجواب: نعم، حيث يكون الظلام دائماً، ولا توجد فرصة لوصول ضوء النهار. يسود الليل البيولوجي تحت الأرض طوال اليوم، وهناك مخلوقات تكيفت مع هذه الظروف الخاصة. وهناك أماكن يستخدم فيها الظلام خصيصاً لإحداث تأثيرات معينة على الأشخاص الموجودين فيها. منها مثلاً مواقع العبادة الخفية وسراديب الموتى التي يعود تاريخها إلى قرون، وفي بعض الحالات إلى آلاف السنين؛ مدن تحت الأرض في "كابادوكيا" التي يعود إنشاؤها إلى العصر البرونزي. يمكن أيضاً العثور على هذه البنايات الخفية في الهند. يشرح جان بيبر الدافع المحتمل في كتابه "المتاهة": "يرى كل من الهندوس والبوذيين أن الرجوع إلى باطن الأرض، حيث تغطي طبقات هائلة من الصخور خلية الراهب، يطلق طاقات تأملية عظيمة" (ص 60).

تتبع النباتات أيضاً إيقاع النهار والليل، ويذهب الكثير منها إلى النوم، إذا جاز التعبير. مثلا تتدلى أوراق "الترمس" التي تشبه المروحة "بحزن" في الظلام، وينطبق هذا أيضاً على الأوراق الصغيرة لـ "الحُميضة". تنغلق الزهور لتحمي حبوب اللقاح من ندى الصباح. القداس الليلي أو صلاة منتصف الليل، التي شاعت في الترانيم الشبيهة بجوقة المرتلين وتلاوة المزامير، تقام في كنائس غير مضاءة تقريباً. طقوس لترقب الفجر القادم، ظلام الليل معادل رمزي لظلام الكون قبل الخليقة، وهو الوقت الذي يمكن فيه اختبار تجلي الرب، بحسب تحليل برونر.

نزهات ليلية
وفي فصل عنوانه "عشاق الليل ومادحوه"، يحكي برونر عن تشارلز ديكنز أنه كان يتجول ليلاً، بسبب معاناته من الأرق، ويعود إلى منزله فجراً منهكاً. وفي إحدى جولاته قطع ديكنز مسافة 50 كيلو متراً في سبع ساعات، من شقته في لندن إلى منزله الريفي قرب روشستر. وهكذا وضع ديكنز – كما يقول برونر – عيناً ثاقبة على خصوصيات المدينة في الليل، كما جاء في كتابه "اسكتشات لندن" الصادر عام 1839. وكانت نزهات ديكنز الليلية تدور أيضاً حول استكشاف الظروف المعيشية للطبقات الدنيا. ويذهب برونر إلى أن المتنزهين الليليين، على شاكلة ديكنز، غالبا ما يأملون في رؤية المدينة "الحقيقية" عند استكشافها ليلاً، أو رؤية الهيكل العظمي للمدينة، إذا جاز التعبير. وينقل عن إليزابيث برونفن قولها إن شبكة المواقع الليلية المضاءة بالسطوع الاصطناعي تجعل خريطة المدينة مختلفة تماماً عما هي عليه في أثناء النهار. قالت برونفن ذلك في كتابها "أعمق من تفكير النهار". أما شارل بودلير فكتب في "سأم باريس": "أخيراً يمكنني الاسترخاء في جمام الظلام، لكن أولاً ينبغي قفل الباب المزدوج؛ فهذا يزيد من وحدتي وحواجزي في مواجهة العالم" (ص124).

صياح الديك
وفي فصل عنوانه "مشاهد من الليل" يتطرق برونر إلى لوحة آدم إلشايمر "الرحلة إلى مصر" والتي تحمل على ظهرها علامة "روما 1609"، وهي تصور سماء الليل بشكل طبيعي للمرة الأولى في الفنون الجميلة. وتشير حقيقة إلى أنه يمكن رؤية نحو 1200 نجم في هذا العمل، وأيضاً بعض فوهات القمر، إلى أن إلشايمر ربما كان لديه تلسكوب، "ولأن اللوحة رسمت في الوقت الذي كان فيه جاليليو جاليلي يراقب السماء، فإن هذه الفرضية ليست مستبعدة" (ص 181).

لا يكاد الليل ينتهي، فإذا أتى النهار في جانب من الكرة الأرضية، فإن الليل يبدأ على الجانب الآخر، ووفقاً للخرافة القديمة، فإن أرواح الليل تسري حتى الصباح الباكر، حين يطلق الديك صيحاته الأولى بكل قوته، قبل أن يزعج ضوء النهار كل أولئك الذين لا يزال إيقاعهم يعتمد على الليل، أو الذين لا يريدون – ببساطة – أن يتعبوا، ولا يكاد يوجد أي مكان آخر يظهر فيه التناقض بين الساهرين، والموظفين والعمال الذين يحصلون على راحة جيدة كما هو الحال في القطارات الأولى لمترو الأنفاق.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق