نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
مريم ماكيبا... أفريقيا ولعبة النسيان - تكنو بلس, اليوم الخميس 1 مايو 2025 04:28 صباحاً
فوق تلة هادئة في مدينة دالابا الجبلية الواقعة في وسط غينيا، على بُعد نحو 280 كيلومتراً من العاصمة كوناكري، يرتفع بيت صغير قديم، يوشك أن ينهار، لكنه ما زال يحتفظ بصوت. ليس صوت الريح، ولا الطيور، بل صوت امرأة أفريقية غنّت للحرية، وعاشت منفاها كأنه وطن.
إنه صوت مريم ماكيبا، الملقبة "ماما أفريقيا”، التي عادت أخيراً إلى الواجهة، ليس بأغنية جديدة، بل بمبادرة لإحياء بيتها المنسي وتحويله إلى متحف مفتوح للذاكرة.
ذلك البيت الطيني الدائري، الذي بُني لها في أوائل عقد السبعينيات من القرن الماضي، كان شاهداً على جزء من رحلة طويلة لامرأة غيّرت وجه القارة بصوتها. امرأة من جنوب أفريقيا، طاردها نظام التمييز العنصري، فاحتضنتها غينيا ومنحها الرئيس أحمد سيكو توري اللجوء والدعم.
في دالابا، لم تجد سقفاً يقيها من المطر وحسب، بل وجدت وطناً بديلاً، وفضاءً للغناء والتأمل والتعافي.
لم يكن البيت مجرد جدران، بل كان مساحة دافئة للضيوف والمثقفين والمناضلين، ولحظات الحب والخسارة. هنا عاشت مع زوجها آنذاك، ستوكلي كارمايكل، أحد رموز حركة "الفهود السود" في أميركا، وشكّلا معاً ثنائياً نادراً يجمع بين الفن والنضال. ثم افترقا، وماتت ابنتها، وابتعدت عنها الأضواء، لكن البيت ظل شاهداً على كل شيء.
بدأت ماكيبا رحلة المنفى الطويلة التي امتدّت 31 سنة في نهاية عقد الخمسينيات، حين لفتت الأنظار أثناء مشاركتها في الفيلم الوثائقي Come Back, Africa (1959)، الذي تناول معاناة السود في جنوب أفريقيا.
رفض نظام التمييز العنصري السماح لها بالعودة إلى وطنها بعد مشاركتها في عرض الفيلم بمهرجان البندقية في إيطاليا.
اليوم، ورغم مرور عقود كثيرة، لا يزال المنزل قائماً، بفضل رجل من دالابا يُدعى عمر تلي ديالو، قرر أن يحرس المكان بإخلاص، من دون تكليف رسمي أو دعم مالي، فقط بدافع إيمان داخلي بأن هذا المكان يجب ألا يُنسى.
ورغم محاولات التخريب وسنوات الإهمال، لا تزال بعض أغراض ماكيبا محفوظة: كتبها، أسطواناتها، أثاثها الخشبي، وحتى لوحة موقعة من الرئيس سيكو توري.
زارت حفيدتها، زِنزي ماكيبا لي، أخيراً، البيت برفقة وفد من السفارة الجنوب أفريقية، فأعاد ذلك الأمل لإنقاذه، إذ أعلنت وزارة السياحة الغينية نيتها تحويل المنزل إلى متحف مفتوح يحتضن تاريخاً غنياً ومسيرة لا تُنسى. وقالت زِنزي: "نريد لهذا المكان أن يظل حياً، وأن يُحدّث الزوار عن امرأة آمنت بأن الفن يمكن أن يغير العالم".
غير أن ذاكرة غينيا، مثل كثير من الدول، مثقلة بالوعود غير المنجزة. فهل يكون هذا المشروع استثناءً؟ هل تتحول دار ماكيبا إلى منارة ثقافية تليق باسمها، أم تبقى ضمن سلسلة طويلة من الرموز التي تُنسى ببطء؟ السؤال مشروع، والحذر مفهوم.
سمعتُ باسم مريم ماكيبا لأول مرة وأنا صبي يافع، حينما أحيت صيف 1978 سهرة في مدينة أصيلة، في إطار قرية مهرجان أصيلة، وهو مهرجان بدأ بموازاة مع موسم أصيلة الثقافي الدولي، لكنه لم يعمر طويلاً لأسباب ليس هنا المجال لذكرها.
لم أحضر تلك السهرة، لكنني فهمت من خلال ما سمعت أن الأمر يتعلق بأيقونة غناء تحلق في أعالي الفن والنضال ضد التمييز العنصري.
من الصعب اختزال حياة مريم ماكيبا في سطور. فهي لم تكن مجرد مغنية، بل كانت صوتاً هائلاً يحمل قضايا شعبها، وامرأة قاومت النفي والخذلان بالفن.
هي أيضاً أول أفريقية تفوز بجائزة غرامي، وأول من أقنع العالم بأن صوت المرأة السوداء يمكنه أن يهزّ قاعات الأمم المتحدة. غنّت بلهجات متعددة، ومثّلت القارة في محافل دولية، وظلت وفيّة لقضيتها حتى الرمق الأخير.
في التاسع من تشرين الثاني / نوفمبر 2008 ، توفيت ماكيبا عن عمر 76 عاماً في إيطاليا، عقب إحيائها حفلة دعم للصحافي النيجيري المسجون كين سارو-ويوا.
ماتت على المسرح وهي تغني من أجل الحرية، كأنها أرادت أن يكون فنها آخر ما تتركه للعالم.
إن تحويل منزل ماكيبا إلى متحف ليس تكريماً شخصياً وحسب، بل هو عمل ثقافي وأخلاقي بامتياز، واعتراف بقيمة الذاكرة، وبأن القارة التي أنجبت ماكيبا تستحق أن تروي قصتها من خلال رموزها. وربما نحتاج، أكثر من أي وقت مضى، إلى مثل هذه الفضاءات التي تذكرنا بأن النضال لا يكون بالسلاح دائماً، وأن الفن يمكن أن يكون طلقة هادئة تغير العالم.
فإذا تنفّس البيت مجدداً، وسُمِع صدى أغانيها منه من جديد، فقد نسمع صوتها يهمس من بعيد: "أفريقيا، يا أرضي… لا تنساني”.
فهل ننسى وينسى الجميع، وتغوص ذكرى ماكيبا في لعبة النسيان؟
0 تعليق