سلاف فواخرجي بين الفن المُلتزم والنقابة "المُنضبطة" - تكنو بلس

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
سلاف فواخرجي بين الفن المُلتزم والنقابة "المُنضبطة" - تكنو بلس, اليوم الاثنين 28 أبريل 2025 05:32 مساءً

قضية إدارية؟ لا. فضيحة نقابية؟ ربما. لكنها في جوهرها علامة فارقة في علاقة السلطة بالفن، وتحديداً في سوريا ما بعد الحرب. فهل ما جرى مع الفنانة سلاف فواخرجي هو مجرّد شطب لعضوية في نقابة، أم فصل قسريّ بين الفنان وضميره؟


في قرار مفاجئ أثار عاصفة من الجدل، أعلنت نقابة الفنانين السوريين أخيراً شطب عضوية الفنانة سلاف فواخرجي، متهمة إياها بـ"الخروج عن أهداف النقابة"، و"إنكار الجرائم المرتكبة بحق الشعب السوري". قرار مقتضب في صيغته، لكنه ثقيل في رمزيّته، خصوصاً أنه طال فنانة لم تُعرف بانتمائها الصدامي أو المعارض الصريح للسلطة الجديدة، بل اختارت في الأغلب صوتاً متّزناً إنسانياً، ظلّ ضمن حدود الممكن في مشهد فنيّ تقوده الرقابة السياسية منذ سنوات.


من يحمي الفنان؟
ما إن صدر القرار حتى اشتعلت وسائل التواصل الاجتماعي بموجات تضامن واسعة مع فواخرجي، من فنانين وصحافيين ومثقفين وجمهور، تجاوزوا الأطر السورية إلى الساحة العربية. المخرج الليث حجو غرّد مستنكرًا: "النقابة تتساهل مع المطبّلين، وتقصي من يهمس بالاختلاف"، بينما اعتبر الكاتب سامر رضوان أن النقابة "تريد من الفنان أن يكون بوقًا، لا إنسانًا".
أما فواخرجي، فقد خرجت عن صمتها بمنشور وجدانيّ على صفحتها في "فايسبوك"، عبّرت فيه عن امتنانها العميق لمن وقف إلى جانبها، وقالت: "سأعود لأنشر ما كُتب عني، ليس لأثبت شيئاً على الإطلاق، فالمثبت لا يُثبت والمشروح لا يُشرح، وإنما إعادة النشر هي كحقّ شكر لمن وقف معي، سواء بالمنطق فقط أم بالمنطق والمحبة معاً، وكلفوا أنفسهم عناء الاهتمام والكتابة والتعبير عن الحب".
وشكرت من دعمها من الجمهور والفنانين العرب، بخاصة من مصر حيث حظيت بموجة تعاطف لافتة، عبّر عنها كلّ من المخرج عمرو سلامة والفنانة بشرى وغيرهما، في تأكيد رمزي على أن الفن لا يعترف بالحدود الجغرافية حين يُهدّد جوهره.
وأعادت هذه القضية إلى الأذهان الدور الذي باتت تلعبه نقابة الفنانين السوريين في السنوات الأخيرة، إذ يرى كثيرون أنها فقدت دورها الأساسي كنقابة مهنية، وتحولت إلى ذراع رقابية تُقصي ولا تُنصف، وتدين ولا تحمي.
ولعل أبرز ما يعزّز هذا التصوّر هو سجل طويل من الإقصاءات في النظام السابق، شملت فنانين مثل عبد الحكيم قطيفان، فارس الحلو، مي سكاف، وحتى جمال سليمان، الذي رغم عدم شطبه رسمياً، عانى من حملات تشويه عقب مشاركته في منصات معارضة.


عندما يتحول الفن إلى "وظيفة ولاء"
لكن ما يكشفه قرار شطب فواخرجي يتجاوز الجانب النقابي، ليلامس جدلًا ثقافياً أوسع حول موقع الفنان في المجتمعات غير الديموقراطية. ففي هذه السياقات، لا يُنظر إلى الفن كوسيلة مساءلة أو تفكير، بل كأداة تجميل للسلطة، وتُمنح شرعية الوجود طالما التزمت حدود الانتماء السياسي.
في المقابل، يصبح الفنان الذي لا يصفّق مشبوهاً، حتى لو لم يثر ضجيجاً، بل اكتفى بأن يُعبّر عن وجعه بطريقة إنسانية أو وجدانية.
سلاف لم تكن معارضة، لكنها لم تكن أيضاً من أولئك الذين يبرّرون كل شيء. وربما كانت تلك "المنطقة الرمادية" التي اختارتها، هي ما أثار قلق المؤسسة الرسمية أكثر من أي موقف صدامي. فالسلطة لا تحتمل الغموض، ولا تقبل التماهي مع الألم إلا إذا صِيغ بلغة إعلامية مُعدّلة.

 

سلاف فواخرجي.

 

في تحليله للمثقف في المجتمع، يميّز أنطونيو غرامشي بين "المثقف العضوي" الذي يعبّر عن ضمير جماعته، و"المثقف التقليدي" الذي ينتج في خدمة النظام القائم. أما في سوريا، فقد طوّرت النقابة نموذجاً ثالثاً: المثقف "المنضبط"، الذي لا يُطلب منه أن يبدع، بل أن يُطيع. وقد أظهرت قضية فواخرجي كيف باتت النقابة تقيس قيمة الفنان بمدى قربه من السردية الرسمية، لا بمنجزه الفني أو الإنساني.


رمزية اللحظة: هل الفن في خطر؟
هذه الحادثة ليست تفصيلاً عابراً في الشأن الفني السوري، بل مؤشر  إلى تحوّل خطير يُفقد الفن استقلاله الرمزي، ويجعل من المؤسسات الثقافية أدوات ضبط اجتماعي لا فضاءات إنتاج للوعي. فعندما تصبح عضوية النقابة مرهونة بالولاء لا بالكفاءة، فإن المجتمع بأسره يفقد صوته الجمالي، وتتراجع الثقافة إلى خطاب سلطويّ مغلّف بلغة الفن.
في زمن الشطب المؤسسي، يثبت الجمهور مرةً أخرى أنه الحامي الحقيقي لذاكرة الفن. وقد تجلّى ذلك في التضامن الشعبيّ مع فواخرجي، وفي تعليقات السخرية والرفض والحنين التي ملأت الفضاء الرقمي، مثل الصورة التي نشرها الفنان قاسم ملحو بتعليق لاذع: "زهير رمضان لساتو عايش". هذه النكات السوداء ليست عبثاً، بل وسيلة لمقاومة الإقصاء بلغة الناس، حيث لا تصل البلاغات الرسمية.


استحقاق ما بعد الحرب: أيّ فنّ نريد؟
أمام كلّ هذا، يبرز سؤال وجودي يُطرَح على النخب الفنية والثقافية السورية: ما موقع الفن في سوريا ما بعد الحرب؟ هل هو أداة تطبيع مع الألم، أم مساحة حقيقية للتعبير والمساءلة؟
الجيل الجديد من الفنانين يواجه خيارات صعبة، بين التماهي مع الخطاب الرسمي، أو الرحيل الصامت نحو منافٍ أكثر حرية. وفي غياب إصلاح عميق في بنية النقابات والمؤسسات، سيبقى الفن مهدداً لا من الخارج فقط، بل من داخله أيضاً، عندما يُفرَغ من مضمونه ويُحوَّل إلى شعارات خالية من الروح.
ختامًا، قضية سلاف فواخرجي ليست نهاية، بل بداية سؤال طويل: من يملك الحق في أن يُعرّف الفن؟ ومن يملك حق شطبه؟ ما جرى ليس مجرّد فصل من النقابة، بل محاولة لفصل الفنان عن ذاته، عن حريته، عن جمهوره. لكن هذا الفصل لا يُكتب إلا في أوراق النقابة، بينما تبقى الذاكرة الشعبية، والفن الحقيقي، عصيّين على الشطب.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق