نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
البابا فرنسيس يوم جلس أمام كاميرا فيم فندرز - تكنو بلس, اليوم الثلاثاء 22 أبريل 2025 08:32 مساءً
في "البابا فرنسيس: رجل كلمة" للمخرج الألماني فيم فندرز، الذي عُرض في مهرجان كانّ عام 2018، يطفو وجه الحبر الأعظم الراحل على الشاشة الكبيرة، لا كرمز ديني، إنما كمادة بصرية خالصة، تلتقطها عين السينمائي الكبير كما تلتقط العدسة الضوء من شقوق الروح. الفيلم حلقة جديدة في سلسلة تأملاته الوثائقية التي لامست الفنّ بوصفه حاجة إنسانية. فمن موسيقى "بوينا فيستا سوشل كلوب" وقلب هافانا القديمة، إلى الرحلة في عوالم المصوّر سيباستياو سالغادو في "ملح الأرض"، كانت كاميرا فندرز تمضي كمن يبحث عن المعنى المتواري في الهامش. وها هو يقرر الجلوس وجهاً لوجه مع رجل الكنيسة الكاثوليكية الأعلى، لا بصفته مرجعاً روحياً فحسب، بل كصوت مغاير في زمن الضجيج والاسفاف. رجل من لحم الكلمة، يمشي في العالم وهو يعتذر عنه.
قبل أعوام، حينما صوّر فندرز راقصة الظلال بينا باوش في فيلم ثلاثي البُعد، لم يكن يوثّق الرقص، إنما يراقب الجسد وهو يتحوّل إلى صلاة. على هذا المنوال، يستنطق فندرز حضور البابا، كأنما يبحث عن إيقاع آخر للقداسة في زمن مُصاب بعمى القيم. كانت هذه المرة الأولى يفتح فيها فندرز كادره لمرجع روحي، وكأن نسمة من قداسة عابرة لامسته بعدما تجاوز السبعين. الفنّان الذي تربّى في حضن الكاثوليكية قبل أن يلجأ إلى البروتستانتية، يعود هنا إلى الجذر، عبر الصورة لا عبر الطقوس. هذا "التودد" لم يكن وليد مصادفة أو افتتان عابر، إنما مشروع بُني بإمكانات كبيرة، مكّنت فندرز من مرافقة البابا في أسفاره إلى أقاصي العالم. من الفافيلات المختنقة في ريو دي جانيرو، إلى أروقة مستشفيات الأطفال المصابين بالسرطان في أفريقيا، مروراً بالمسجد الأقصى. والأماكن هنا أكثر من ديكور، انها جراح مفتوحة على الشاشة.
ملصق الفيلم.
يدفع فندرز بالفيلم إلى أبعد من البورتريه، ليصنع منه اقتراحاً بصرياً يناقش الإيمان والمقدّس والإنسان، والأخير يتناوله في ضعفه وتوقه إلى شيء أسمى. "الرحمة أولاً"، يكرر البابا، ويبدو فندرز كمن يعيد ترجمة تلك العبارة بلغة الصورة. صحيح أن مخرج "باريس تكساس" يبذل جهداً كبيراً، لكن الحقيقة أن نجومية الفيلم لا تعود إليه. إنها لفرنسيس وحده. رجل يسحب البساط من تحت أقدام مخرج متمكّن من صنعته، كما يسحب الحزن من عيون الأطفال.
ورغم أن المشروع وُلد داخل الفاتيكان، باقتراح من المؤسسة الدينية التي هي الأقدم في التاريخ، فإن فندرز لم يتحوّل إلى "موظّف" عند البابا. العكس تماماً. بقي سيد الصورة، محافظاً على قدرته على نسج عمل حرّ، يعكس انبهاره القديم بذلك الرجل الذي بدّل قواعد اللعبة، منذ أن ظهر على شرفة كاتدرائية القديس بطرس.
يحضر البابا فرنسيس في الفيلم، لا كمُصلح، إنما كصوت يعيدنا إلى الأصل. لا يعلن ثورة بقدر ما يستدعي نسياناً قديماً: فقر الأناجيل، تراب الأرض، عيون الأطفال. الفيلم، منذ بدايته، لا يخبّئ نياته، اذ يتيح تقاطعاً بصرياً وروحياً بين البابا وفرنسيس الأسيزي، قديس التواضع الذي كانت خطاه حبلى بالمطر لا بالذهب، فيُعيد إحياءه بمشاهد صامتة بالأبيض والأسود، كأنها تخرج من ضمير الزمن. ليست مصادفة أن يكون فرنسيس هو البابا الأول الذي حمل اسم ذاك الناسك، فالعقيدة التي تربط بينهما تنبذ الترف وتدعو إلى عهد جديد مع الطبيعة، ذلك الكائن المُهان في زمن الكائنات الاصطناعية.
لكن الأهم يكمن في الصوت لا في الصور. في ما يقوله البابا لا في ما يُقال عنه. عباراته تسقط كحجارة ناعمة على مياه هادئة. يتناول قضية البيدوفيليا بكلّ جرأة ولا يتلكأ في التعاطف مع اللاجئين. عن المثليين يقول: "مَن أنا لأحاكمهم؟". إنها مواقف تصلح لتكون خطبة في ثورة لا عظة في كنيسة. كلمات تُحرج مؤسسة عمرها قرون، هرِمة، تئنّ تحت ثقل تاريخها. الكنيسة عنده ليست تاجاً من ذهب، بل كفّ ممدودة للآخر. فالمال بالنسبة اليه يخرّب، ويرى في "بيت الله" الذي يعانق الربح المادي مجرّد "منظّمة غير حكومية". نعم، سمعتم جيداً، يقولها بالحرف الواحد: NGO. يريد كنيسة فقيرة، لأن المسيح لم يكن ثرياً.

الحبر الأعظم كان يعتبر الكنيسة كفّاً ممدودة للآخر.
يعود البابا دوماً إلى فكرة الإنسان: ذاك الذي نسي أن يلعب مع أولاده، ذاك الذي حوّل نفسه إلى آلة، ذاك الذي يتكلّم كثيراً ويصغي قليلاً. في عالم سريع، يطالب بالبطء. في حضارة صاخبة، ينحاز إلى الصمت، على ان يرفع الصوت عند الحاجة، أي عندما يقع الظلم. لا يخشى البابا أن يُساء فهمه. بل لعلّه يبحث عن ذلك. هل هو ماركسي؟ ربما. في الفيلم، لا يبدو معنياً بالنفي، وإن سبق وفعل. ما يهمّه هو الواقع: فرص العمل التي تحمي الكرامة، الأسلحة التي تُباع كعلب حلوى، المال الذي تحوّل إلى إله جديد. "لا تعبدوا ربّين"، يذكّرنا المسيح. والبابا يردّدها، لا كوعظ، بل كتشخيص لمأساة البشر.
الكنيسة كمؤسسة دوغمائية؟ لا يوفّرها. يوجّه إليها نقداً هادئاً، حكيماً، حاسماً، كمن يجرّح ليشفي. يريدها أقل زخرفة وأكثر خشوعاً. يريدها خارج الأبراج، بين الناس. يسأل الأسئلة التي يخجل منها بعض المؤمنين. ينظر في الكاميرا، مباشرةً، كمن يحدق إلى عينَي العالم المرتبك، ويقول: "لا أعرف كيف أفسّر موت الأطفال". ثم يلوذ بدوستويفسكي. لا يخاف من كلمة "ثورة". يعرف أن مفردة واحدة قد تعيد ترتيب العالم. يعرف كذلك أن الميثولوجيا ليست عيباً، بل غلاف رمزي لحقيقة أعمق. فـ"الخلق"، كما يرد في الكتب المقدّسة، شكل شعري للعقل الجمعي، لكن الأرض التي نقف عليها والهواء الذي نتنفّسه، هذا ما يجب أن نصونه، أن نحبّه، أن لا نفرّط به. لهذا، لا يتورط الفيلم كثيراً في اللاهوت. لا حاجة لتفسير العقيدة عندما يكون الموقف أوضح من النصّ. اقتناعات البابا كافية! فيم فندرز، المتأمّل الدائم، لا يُخفي إيمانه: فرنسيس أفضل ما حدث للكنيسة منذ فترة طويلة.
0 تعليق