مراوغات الشعر والحياة في ديوان "ما لم أستطع قوله" لأحمد زكريا - تكنو بلس

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
مراوغات الشعر والحياة في ديوان "ما لم أستطع قوله" لأحمد زكريا - تكنو بلس, اليوم الثلاثاء 22 أبريل 2025 01:13 مساءً

من الممكن اعتبار النفي إثباتاً، على طول الخط، لدى الشاعر أحمد زكريا، في مجموعته الشعرية "ما لم أستطع قوله لأحدهم بلغة أخرى"، الصادرة حديثاً عن "دار النهضة العربية" في بيروت.

إن جملة الأفعال، التي يصرّح الشاعر بعدم قدرته على إنجازها في الحياة وفي الإبداع معاً، تكاد تكون هي الأفعال الوحيدة المؤكدة، ربما، التي يقترفها أو يتورط بخوضها، بقصد أحياناً، ومن دون وعي في أحوال أخرى.

ينطلق الشاعر المصري (41 عاماً)، المقيم في تركيا منذ انقضاء ثورة كانون الثاني/ يناير 2011 إلى يومنا الحالي، في مجموعته المكثفة، من منصة المراوغات البريئة دائماً، والرغبة في ممارسة الممنوع بمشاكسة طفولية عفوية، ليقول المسكوت عنه، والمطموس، والخفيّ، والسرّيّ، ويكتبه. 

يصغي الشاعر أيضاً إلى هذا المُستَبْعَد، والمحذوف، والمشار إليه بالنفي، ويتقصّاه، ويتلمّسه، في تفاعلاته واشتباكاته مع الآخرين، من الأصدقاء والغرباء على السواء، في وطنه البعيد، الغائب الحاضر، وفي مستقرّه الاختياري القريب الذي لا يعتبره منفى، بل يظنه أمّاً بديلة أوسع من الحدود القومية الضيقة "ولدتُ أكثر من مرة/ لكنني في كل مرة، كنت أولد في إبريل/ ولدت بجوار النيل والبوسفور، وقلعة صلاح الدين، وبرج غلَطة/ وفي كل مرة، كان يهمس الربيع في أذني، ويقول: يمكن للزمان أن يكون هوية، ويمكن أن تصاحب شجرة، في مدينة غريبة".

ارتياد المستحيل
هكذا، يمكن الولوج إلى عوالم النص الثريّ، المقسّم إلى عشرين قصيدة نثر قصيرة، وقصيرة القصيرة، في قرابة ستين صفحة، والذي تصدّره إهداء الشاعر إلى رفيقة حياته في تركيا وشريكته أيضاً في الكتابة والترجمة "إلى لغتي الأم: ملاك دينيز أوزدمير".

 

غلاف الديوان (دار النهضة العربية)

 

تتجلى هذه المفارقة المفتاحية (النفي/ الإثبات) في عنوان الديوان "ما لم أستطع قوله لأحدهم بلغة أخرى"، وفي قصديته الأولى "ما لم أستطع قوله لأحدهم ذاك الصباح"، إذ يتشكل الفعل الحياتي والقول الإبداعي، في حقيقة الأمر، في فلك هذا الموصوف بغير المستطاع، لتصير التجربة برمّتها ارتياداً لآفاق المستحيل، الذي لا يتاح إلا من خلال نوافذ الشعر الاستثنائية.

كما أن هذه اللغة الأخرى الواردة في العنوان، واللغة الأم، واللغات كلها عموماً، تتضافر معاً لتمنح الذات الشاعرة قوة اسثتنائية للمقاومة، والتخلص من الخوف، والاغتسال من قساوة الماضي وأوجاعه وشوائبه العالقة، وبدء مرحلة واقعية للتعايش مع الحاضر القائم وربما المستقبل الآتي "أريد أن أمسك بلحظات الضعف، وألقي بها في الهواء/ أريد أن أكتب ما لم أستطع قوله لأحدهم ذاك الصباح، ونحن نتحدث عن الجو الرائع في مدينة غريبة، بحديقة في منتصف ميدان عام".

ذاكرة بديلة
يمضي أحمد زكريا، صاحب المجموعة الشعرية "جداليَّة"، والحاصل على جائزة متحف محمود درويش في الشعر وجائزة ابن بطوطة في أدب الرحلة، في ديوانه الجديد، صوب معالجة ذاته الممزقة، واحتواء اهتراء بلاده كثوب بالٍ في محارق الأزمات والثورات والفوضى والانقسامات "نتسكّع بين القبور القديمة، نبحث عن أسماء أجدادنا الذين أُخِذوا إلى الحرب، ولم يعد منهم غير الأغنيات".

هو لا ينشغل بوجود ثقوب في ذاكرته التي نخرها سوس الحنين ونوستالجيا الرجوع، طالما أنه بالإمكان رتق هذه الذاكرة المعطوبة، بل إيجاد غيرها إذا اقتضت الحاجة هذا الاختراع "أبحث عن ذاكرة جديدة، لا تبحث عن بلاد لا تسأل عني".

يواجه الشاعر غربته بمحاولته ترويضها بجسارة واستئناسها بإيجابية، أكثر من انجرافه الاستسهالي السلبي إلى إدانتها، والإسهاب في سرد جفافها وجفائها ووحشتها. كذلك يعيد الشاعر بسلاسة صوغ مفهوم المدينة من منظور لا يقصرها على مواطنيها الأصليين "المدينة: كلمة فضفاضة كأحلام الغزاة، ومعقدة كالنقوش الحجرية/ ضواحي المدينة، وسط المدينة، الشوارع الشهيرة في المدينة، والشوارع الخلفية، الأحياء المحافظة في المدينة، والحياة الليلية للمدينة/ المدينة المقاومة، شعراء المدينة".

وفي مغامرته الإبداعية والحياتية المبتكرة، يتوازى بحثه الجريء عن كلمات لم يكتبها الشعراء بعيداً عن بلادهم، مع تفتيشه اللاهث الدؤوب عن "بلاد لا تحاول أن تحذف الربيع من الكتب المدرسية"، وعن "أغنية جديدة، لم يقتلعها العساكر من حناجر المُغَنّين".

انفلات جغرافي وتاريخي
هذه المقترحات المطروحة على طاولة العمر، أو الاحتمالات الجاري التعاطي معها، في ما يخص تقبّل استبدال الجغرافيا "كل البلاد عندي أوطان"، تتقاطع مع مساعي الانفلات أيضاً من قبضة الزمن، وذلك من خلال "حرق الوقت بالشاي والسجائر"، وانتظار المعنى الجوهري للشمس الواحدة العادلة التي لعلها لم تطلع من قبل، والتعافي من أكذوبة "تاريخ مهزوم يتمشى على الساحل".

يعزف الشاعر أحمد زكريا في ديوانه "ما لم أستطع قوله لأحدهم بلغة أخرى" على أوتار مرهفة حسّاسة، مشدودة بالضرورة إلى محور مركزي، هو تسمية الوجوه والأشياء والعلاقات بأسمائها الحقيقية، المباشرة والصادمة، من غير التواءات، ومن دون مجازات ورتوشات تجميلية "ابتعِدْ عني أيها الرّمز، سوف أُلطّخك بدموعي/ وأنتَ أيها الحنين، سوف أجرحكَ بحكايات، عن جثث تجرفها الدبابات مثل القمامة".

 

أحمد زكريا.

أحمد زكريا.

 

يحدث ذلك التوجه نحو صدق التسميات، لأن الإنسان كائن عولميّ، ينتمي إلى إنسانيته وخميرته الصلصالية في المقام الأول، ولا يجب أن تغيّره سياسات التمييز والعنصرية والجرائم الطائفية واضطهاد الأقليات؛ ولأن ما يتبقى من الوجود لم يعد طويلاً لتزييفه وتزيينه، ولأن كل شيء سينتهي مثلما أن الحرب في كل مكان ستزول، والتظاهرات والاحتجاجات في الميدان سوف تتلاشى، ولأن "أيامنا تفلت من بين أيدينا، كما تفلت الطائرة الورقية من يدي صبي".

مع ذلك، لا تُخفي الذات الشاعرة هشاشتها الداخلية الكامنة في طبقاتها العميقة، وتأرجح مشاعرها وتذبذبها، وذلك في بعض مشاهد انكسارها وتشتتها وحيرتها أمام نداءات السراب "مشاعري مختلطة مثل زحام هذه المدينة/ في الصباح، أشعر أنني واحد من أبنائها الضائعين، بين هويتين/  في الليل، أشعر أنني واحد من غربائك يا إسطنبول/ أيتها المدينة التي لم تتصالح بعد مع الماضي".

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق