بين فترة وأخرى تلتفت الأعناق باتجاه السوق المحلي كنوع من أنواع الاستدراك لما يحدث، وكل مرة تتم الإشارة إلى أن السوق مخطوف، بالرغم من القرارات والإجراءات التي حدثت إلا أن يقين الاختطاف لا يزال باقياً، وسبق أن كتبت مقالاً حول هذا الأمر بادئاً بهذا السؤال: هل تعكس الأسواق نمط وحياة مجتمعاتها؟

هو سؤال ربما يكون صائباً حين يكون تجار السوق من نفس قماشة المجتمع، أما إذا كان السوق عمقاً للبحر أو محيطاً فإن الإجابة تعتمد على أنواع الحيتان وعلى من يصيد ومن ينصاد، ونحن نسمع أن سوقنا المحلي مخطوف من قبل لوبي متعدد الجنسيات، فيقال أن سوق الأسماك تسيطر عليه الجالية (س)، وأن سوق الخضار يتبع للجالية (ص)، وأن إدارة البقالات من اختصاص الجالية (ع)، وأن سوق الملابس النسائية من اختصاص الجالية (و)، وأن ورش السيارات تديرها الجالية (د)، وأن سوق مواد البناء تخصص الجالية (م)، وأن سوق مواد الكهرباء حق من حقوق الجالية (ي)، وأن سوق غسيل السيارات من ممتلكات الجالية (ق)، وووو وليس لأبناء البلد أي منشط تجاري يمكن أن يقال إن هذا السوق من اختصاص السعوديين.

سوق لن تفي الحروف الهجائية لاستكمال الإشارة إلى تخصصات الجاليات داخله، فهو سوق ضخم فعلاً، إلا أنه موزع توزيعاً عرفياً بين الجاليات مع معرفة المواطنين بذلك التقسيم ولديهم قناعة غدت ثابتة بأنه لا يستطيع أي أحد اختراق تلك التخصصات ما لم يقوم المخترق بتحالفات أو أخذ الإذن للدخول بائعاً من رئيس اللوبي المسيطر على كل التفاصيل من غير أن يترك مجالاً لحدوث صدفة ما تزيله عن إمبراطورية السوق.

فهل يعقل هذا التقسيم والاقتسام لسوق (ترابه ذهب)؟ إن لم تكن مصدقاً بهذه التقسيمات فقم بتحفيز أي شاب من شبابنا الذين يجوبون على أبواب الدوائر والشركات بحثاً عن عمل.. قم بتحفيز أي منهم بالدخول إلى السوق واكتساب رزق مضاعف يغنيه غناء يفوق دخل الراتب المحدود أضعافاً مضاعفة وسينتهي تحفيزك عند المجربين من الشباب؛ إذ ستجد هذا الشاب يسرد لك تفاصيل كل الوقائع الحادثة من سيطرة ومحاربة لأي عنصر وطني عزم على الدخول لذلك السوق، بل سيؤكد البعض أن الجالية المسيطرة إن لم تستطع مضايقتك عملت جاهدة على تكبيدك الخسائر المتوالية، وإن لم يستطيعوا تكبيدك الخسائر نهجوا معك نهجاً مغايراً وذلك بإعطائك مبلغاً مقطوعاً من غير أن تعمل مقابل أن تغادر موقعك.!

والمواقع المباعة داخل السوق متعددة ومختلفة اختلافاً تحدده حالة كل جالية واحتياجاتها؛ ولأن المكاسب وفيرة فلن يصدق عقلك معلومة أن مواقع الشحاذة تباع أيضاً (وهذا ليس انسياقاً مع الأفلام العربية التي جسدت مثل هذه الحالات سابقاً، بل على العكس قد غدا واقعاً حقيقياً نعيشه من غير أن نتنبه له)، وقد بلغني أن صفقات تحدث مع عمال النظافة (وحين أقول صفقات لتعدد وتنوع المستفيدين رغم ضآلة المكاسب من وجهة نظرنا)، فعامل النظافة مثلاً يعقد صفقة مع مشرفه (من نفس الجالية) ليكون موقعه أمام إشارة المرور، وهذا الموقع يدفع مقابله مبلغاً شهرياَ للمشرف المباشر، فموقع عامل النظافة بجوار الإشارة يعد موقعاً فاخراً يدر بالأموال من خلال الاستجداء والشحاذة وليتسخ الشارع كيف شاء... ولأننا نشتكي بمرارة من تكدس القمامة ونتهكم على عقود الأمانة التي توقعها بالمليارات فإن الأمر عند الأمانة ينتهي عند التوقيع من غير تتبع التنفيذ ممثلاً في الرجل المكلف بحمل القمامة، وهي الحلقة التي تضيع عندها المليارات وصراخنا لكي يرحمونا من القمامة المكدسة، فعند رجل النظافة تنتهي كل الآمال من إيجاد مدينة نظيفة كون الفساد تغلغل إلى أن وصل القاع ممثلاً في عامل النظافة الذي وجد في التسيب وغياب الرقابة الفرصة السانحة في تحسين دخله المتواضع لثلاثة أضعاف أو أكثر وذلك من خلال فرز القمامة (حديد، نحاس، قوارير مياه ومشروبات غازية، كراتين)، وبيع كل وحدة بمبلغ وبصورة يومية، والبيع لا يحتاج لتنقلات ومشاوير، فالمشتري يدور بسيارته وميزانه ويأخذ من عامل النظافة ما يعرضه ويدفع له في الموقع.. وأصبح عامل النظافة منشغلاً عن وظيفته بما يحسن من دخله، ومن حقه تماماً كون السوق سوق حيتان يعلمك ميزة التدبر و(الهتش والنتش)؛ ولأننا تعودنا على الهتش والنتش لم نعد نحس بأي شيء، فالأهم لدينا أن نصرخ حتى فقدنا حبالنا الصوتية، وإذا صرخنا لا تخرج أصواتنا.

والآن وبعد كل الإجراءات لفتح أو توطين تلك المهن للشباب السعودي، لا يزال الوضع على ما هو عليه، فأين الخلل؟