نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
أهمية إعادة النظر في قانون النقد والتسليف: نحو تجزئة الهيئات وتوزيع الصلاحيات - تكنو بلس, اليوم الخميس 17 أبريل 2025 05:08 مساءً
د. علي عودة*
بعد اندلاع الأزمة المالية والنقدية في لبنان عام 2019، نشأت دعوات لمراجعة جذرية للبنية القانونية والمؤسساتية التي تحكم عمل مصرف لبنان، وعلى رأسها الحاجة المُلحّة لإعادة النظر في قانون النقد والتسليف، الذي أُقرّ في ستينيات القرن الماضي، في سياق اقتصادي ومصرفي ونقدي مختلف تماماً عن اليوم.
ومع تفاقم الأزمة النقدية والمصرفية، أصبحت الحاجة مُلحة لإصلاح قانون النقد والتسليف، وتحديداً في ما يتعلق بتجزئة هيئات مصرف لبنان وتوزيع صلاحيات الحاكم. وقد كشفت الأزمة بشكل جليّ عن ضعف الحوكمة والرقابة في النظام المالي اللبناني، وطرحت تساؤلات كبيرة حول جدوى الاستمرار في تركيز الأدوار المالية في مؤسسة واحدة هي مصرف لبنان، والصلاحيات في يد شخص واحد هو حاكمه.
دروس التجربة السابقة
في ضوء تجربة حاكم مصرف لبنان السابق، برزت الحاجة لتحديث قانون النقد والتسليف وإعادة هيكلة مصرف لبنان بما يتماشى مع المعايير الدولية الحديثة، من خلال تجزئة الهيئات التابعة له، بما يضمن شفافية الأداء ويمنع تركّز السلطة ويُعزز الاستقرار النقدي. فقد منح القانون حاكم مصرف لبنان صلاحيات شبه مطلقة تشمل: إدارة السياسة النقدية، ورئاسة لجنة الرقابة على المصارف، ورئاسة هيئة التحقيق الخاصة، ورئاسة هيئة الأسواق المالية، ورئاسة المجلس المركزي لمصرف لبنان. وقد أدى إلى تركّز السلطة بيد شخص واحد، في غياب الضوابط الكافية، ما سمح بممارسات غير شفافة وساهمت في تراكم خسائر على مصرف لبنان تجاوزت 70 مليار دولار. كما أن هذا التركيز المفرط للسلطة والتداخل في الصلاحيات والوظائف الرقابية والتنفيذية، خلق سلطة مالية ونقدية مطلقة من دون مساءلة فعلية استمرت لنحو ثلاثين عاماً، أدت إلى:
1. الافتقار للشفافية والمساءلة: فقد كانت السياسات المالية والنقدية تُدار دون آلية إشراف ومراقبة فعلية، ما سمح للحاكم بإدارة السياسة النقدية دون رقابة، وإلى انفلاش السياسة النقدية خارج حدود صلاحياتها.
2. تضارب المصالح المؤسساتي: فعندما يكون الحاكم هو نفسه من يرأس الهيئات التي يفترض أن تُراقب أداء المصرف المركزي، تنتفي فعلياً استقلالية الرقابة.
3. تسهيل السياسات غير المستدامة: مثل الهندسات المالية، والتي استخدمت لتغطية العجز في المالية العامة وفي ميزان المدفوعات على حساب استقرار النقد والقطاع المصرفي، وكذلك سياسة تثبيت سعر الصرف المموّلة بالدين العام.
4. التغطية على المخالفات المحتملة: كإخفاء حجم الخسائر، أو عدم الالتزام بتطبيق المعايير الدولية للشفافية المالية.
ضرورة تعديل قانون النقد والتسليف
يجب أن يكون تعديل قانون النقد والتسليف أحد أعمدة أي خطة تعافٍ اقتصادي. وفي ما يلي عدد من التوصيات:
أولاً. فصل الوظائف لتصبح مهام الكيانات المنضوية ضمن مصرف لبنان كما يلي:
• يُركّز مصرف لبنان على السياسة النقدية، وإدارة السيولة، واستقرار الأسعار.
• تُصبح لجنة الرقابة على المصارف هيئة مستقلة بالكامل، غير خاضعة لرئاسة الحاكم.
• تُفصل هيئة التحقيق الخاصة عن مصرف لبنان، وتوضع تحت إشراف سلطة قضائية أو هيئة مستقلة.
• تُصبح هيئة الأسواق المالية متمتعة باستقلالية إدارية وتنظيمية، وتُربط مباشرة بالسلطة التشريعية أو بوزارة المالية.
ولتكريس التوصيات أعلاه، ولتجنب تكرار التجربة السابقة، من الضروري فصل صلاحيات الرقابة عن صلاحيات اتخاذ القرار وتوزيع السُلطة على عدة هيئات متخصصة، بما في ذلك هيئة لإدارة احتياطيات النقد، وأخرى للإشراف على السياسات النقدية، وهيئة مستقلة لتدقيق الحسابات العامة للبنك المركزي.
ثانياً. تعزيز الشفافية والمساءلة
• تعزيز خضوع مصرف لبنان لتدقيق مالي سنوي خارجي، تُنشر نتائجه بشكل علني.
• توسيع صلاحيات مجلس النواب تحديداً في مراقبة أداء مصرف لبنان والهيئات الرقابية.
• تفعيل دور القضاء في مساءلة مسؤولي السياسات النقدية والإشراف المصرفي.
ثالثاً. الإصلاحات القانونية المطلوبة
يجب تعديل قانون النقد والتسليف بشكل جذري ليشمل الإصلاحات التالية:
• تحديد دقيق لسلطات الحاكم والمجلس المركزي والصلاحيات التي يمكن أن تُمنح للهيئات المختلفة.
• ضمان استقلالية الهيئات المصرفية والنقدية عن أي تدخلات سياسية أو حكومية، لضمان اتخاذ قرارات سليمة بعيدة عن المصالح السياسية.
• إدخال معايير الحوكمة الحديثة كإنشاء لجان استشارية تضم خبراء محايدين لضمان اتخاذ قرارات شفافة وموثوقة.
تجارب دولية
عمدت عدة دول حول العالم إلى تجزئة مهام البنك المركزي، بخاصة بعد الأزمات. فعلى سبيل المثال، وفي بريطانيا بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008، تم سحب صلاحيات الإشراف المصرفي من بنك إنكلترا مؤقتاً، ثم أُعيدت ضمن هيكلية جديدة عام 2013، حيث أُنشئت هيئة الرقابة الاحترازية Prudential Regulation Authority والتي هي تابعة نظرياً لبنك إنكلترا، ولكنها مستقلة بقراراتها. كما أُنشئت هيئة السلوك المالي Financial Conduct Authority ، وهي هيئة مستقلة مسؤولة عن حماية المستهلك والإشراف على سلوك السوق. ومن جهة أخرى، بقيت لجنة السياسة النقدية Monetary Policy Committee مستقلة في قرارات سعر الفائدة والتضخم.
وفي الولايات المتحدة تم اعتماد نموذج فصل مؤسسي متكامل يشمل: الاحتياطي الفيدرالي، وهو مسؤول عن السياسة النقدية واستقرار النظام المالي، ومكتب المراقب المالي (Office of the Controller of the Currency) وهو يشرف على المصارف الوطنية، والهيئة الفيدرالية للتأمين على الودائع، وهيئة الأوراق المالية. ورغم وجود تداخل وظيفي، فإنّ توزيع المهام على مؤسسات متعددة يمنع أي جهة من احتكار النفوذ المالي، ويعزز كفاءة التدخل في الأزمات.
أما ألمانيا، فهي تعطي نموذجاً للحوكمة المؤسسية المُحكمة والرقابة المزدوجة، حيث إنها تعتمد نموذجاً فريداً من حيث الفصل بين إدارة السياسة النقدية والإشراف على النظام المالي والمصرفي، مع خضوعهما للمساءلة البرلمانية. وتضم الهيكلية الأساسية في ألمانيا:
أ- البنك المركزي الألماني، وهو مسؤول عن تنفيذ السياسة النقدية الأوروبية داخل ألمانيا، كما يلعب دوراً مساعداً في الرقابة المصرفية، لكنه لا يملك السلطة النهائية.
ب- هيئة الرقابة المالية الاتحادية (BaFin)، وهي هيئة مستقلة عن البنك المركزي وتُشرف على المصارف وشركات التأمين وأسواق المال وكل الكيانات المالية. ورغم الفصل المؤسسي، هناك تعاون وثيق بين الهيئتين، خصوصاً في مراقبة المخاطر النظامية والامتثال التنظيمي. ومن أبرز سمات النظام الألماني:
1- أن الفصل المؤسسي واضح وحازم، بما يمنع تضارب المصالح أو تسييس العمل النقدي أو الرقابي.
2- منع تركّز السلطة بيد شخصية واحدة، إذ لا توجد وظيفة تنفيذية أو رقابية يجمعها شخص واحد، بل تُدار عبر لجان وهيئات.
3- المساءلة أمام البرلمان الألماني من خلال تقارير دورية وتقييمات أداء شفافة.
بالإضافة إلى تجارب الدول أعلاه، عمد عدد من الدول النامية إلى إعادة النظر في بُنية وأدوار وهيكلية مصارفها المركزية، مثل المكسيك بعد أزمة عام 1994، وإندونيسيا بعد أزمة العام 1997، والمغرب عام 2019.
...إن إعادة النظر في قانون النقد والتسليف اللبناني باتت ضرورة وطنية وأولوية إصلاحية لا تحتمل التأجيل. ومن هنا، فإنّ اعتماد نموذج توزيع الصلاحيات والمهام، أسوة بما حصل في العديد من الدول، يمثّل الطريق الأمثل لضمان الشفافية وتحقيق التوازن المؤسسي وتعزيز آليات عمل جماعي تشاركي تخلق توازناً في صناعة القرار، لاستعادة الثقة في النظام النقدي اللبناني وتعزيز الاستقرار الاقتصادي ومنع تكرار الأخطاء الفادحة التي كلفت لبنان عشرات المليارات من الدولارات.
*خبير في الشؤون النقدية والمصرفية
-المقاربة الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة "النهار" الإعلامية.
0 تعليق