الهوية المفقودة والانتماءات المتعددة - تكنو بلس

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الهوية المفقودة والانتماءات المتعددة - تكنو بلس, اليوم الخميس 17 أبريل 2025 11:40 صباحاً

الدكتورة مارلين مسعد

 

تُعدّ مقاربة مسألة الهويّة وتعقيداتها انطلاقاً من شخصيّات روائيّة عربيّة تنتمي إلى خلفيّات أيديولوجيّة وثقافيّة متنوّعة مقاربةً فريدة ورياديّة، لما تنطوي عليه من جرأة في الطرح وتجديد في الأدوات المفهوميّة والمعرفيّة. وقد أضفى هذا المنهج على الكتاب طابعاً معاصراً، يواكب التحوّلات العميقة التي يشهدها الفكر العربي والإنتاج الأدبي في آنٍ معاً.

فالمكتبة العربيّة المعاصرة باتت تعاني من تكرار أنماط تعبيريّة وأسلوبيّة مستهلَكة، ومن غياب المشروع الفكري الجادّ لدى كثير من الكتّاب، ما يجعل الحاجة ملحّة إلى دمٍ جديد يُنعش هذا الفضاء، ويعيد إلى النصّ العربي شيئاً من ديناميّته المفقودة.

ويزداد هذا التحدّي إلحاحاً في ظلّ التحوّلات الرقميّة المتسارعة، التي تشهد بروز الإنسان المعزّز تكنولوجياً، وظهور الذكاء الاصطناعي بوصفه منتِجاً معرفيّاً قادراً على محاكاة الخطاب البشري بل وتجاوزه أحياناً. في هذا السياق، تبرز الحاجة إلى أدب يتجدّد ذاتياً، ينافس تاريخه ويواكب المستقبل، من دون أن يفقد جذوره الإنسانيّة أو عمقه الثقافي.

وفي هذا الإطار، لا يمكن الحديث عن قضايا الهويّة دون أن يحضر إلى الذهن، ولو عرضاً، كتاب أمين معلوف “الهويّات القاتلة "، إذ يلتقي مع نصّ هدى معدراني في الطرح الوجوديّ العميق لمسألة الهويّة، وإن اختلفت المقاربات والسياقات. فالهويّة، في جوهرها، ليست مجرّد تصنيفٍ ثقافيّ أو انتماءٍ خارجيّ، بل هي سؤال وجوديّ مفتوح، يستدعي استنفار أدوات الفلسفة وعلم النفس والسوسيولوجيا وغيرها من الحقول لفهم تعقيداته. 

ففي كتابه Les Identités meurtrieres يطرح أمين معلوف مسألة الهوية بوصفها تركيبة معقّدة ومتعددة الأبعاد، رافضاً اختزال الإنسان في انتماء واحد. يؤكد أن التشبث بهوية أحادية قد يؤدي إلى العنف والانغلاق، بينماالهوية الحقيقية هي نتاج تفاعل تاريخي وثقافي طويل يشمل كل ما عاشه الفرد. أما هدى معدراني، في*الهويّةالمفقودة*، فتتأمل الهوية من زاوية ذاتية وجودية، كحالة من الضياع والتشظي في عالم مضطرب. تصوّر الهوية كرحلة بحث مؤلمة عن الذات وسط تناقضات المجتمع وسلطاته، حيث تصطدم الرغبة في التحرّر بالقيود الاجتماعية والسياسية. 

كلا الكاتبين ينطلق من تجربة شخصية ليطرح سؤالاً كونياً: من نكون، عندما نكون ممزقين بين ما نرثه وما نختاره؟

فالرواية الأولى للدويهي بشخصيتها " نظام" رفعت مستوى هذه الدراسة. وأظهرت للعلن كيفيّة تشكيل هويّة ما، من خلال انسان تناولته الرواية بموضوعيّة وحرفيّة عالية لا يتقنها سوى معلّم وعالم ! قاد الدراسة وقاد فكرة الكاتبة نحو شيء من الصعود والتعالي على الآراء الذاتيّة والميول التي تبعد كل بحث وكل دراسة عن مسارها العلمي الحرفي. 

 

 

فهوية "نظام" شخصيّة رواية الدويهي بدت أشبه بمرآة يعكس فيها الآخرون صراعاتهم وانقساماتهم، في حين يحاول هو أن يحيا بانسجام داخلي، ولكن دون أن يكون له أثر فعّال في محيطه. ما يطرح سؤالاً فلسفياً: هل تكفي النوايا الطيبة والتسامح الداخلي لمواجهة العنف الرمزي والمادي الذي تفرضه الهويات الجماعية المتناحرة؟ وربما كانت مغادرته لحورا، ثم موته، نوعاً من “الرفض الصامت” أو “القرار الأخير” الوحيد الذي اتخذه بنفسه، في عالم لم يترك له هامشاً للاختيار.

ولا بدّ من ذكر أنّ البُعد السياسي في الرواية بدا غير مباشر، لكنه حاضر بقوة من خلال الخلفية اللبنانية المضطربة، والانقسامات الطائفية والفكرية، وطرح تساؤلات حول المعنى من الالتزام في عالم يبدو بلا يقين.

ومن أحبّ أعمال أمين معلوف أو إلياس خوري أو حتى جبرا إبراهيم جبرا، قد يجد في “نظام” صدى قريباً.

تمكنّت الكاتبة من خلال عمل الدويهي تسليط الضوء على مأساة الهوية الملتبسة في مجتمعات قائمة على الانتماء الطائفي الصارم. فـ”نظام” يُجسّد الهوية الهجينة التي ترفضها الجماعة، لأنها تُهدد نقاءها الرمزي واستمراريتها الثقافية والسياسية. رفضه من قبل مختلف الأطراف، وحرمانه من الإرث وحتى من الطقوس الدينية بعد موته، يكشف أن الهوية هنا ليست خياراً فردياً، بل نظاماً قسرياً تمليه الجماعة. العلاقة غير المكتملة بين “نظام” و”جنان” ترمز إلى استحالة إنتاج هوية جديدة لا تنتمي لطائفة، ما يعكس عجز المجتمع عن تقبّل الانتماءات العابرة للطوائف. وهكذا غدت الهوية الفردية تمرداً سياسياً محكوماً بالإقصاء، وربما الفناء. 

الرواية الثانية - "رواية في بلاد الدخان "
رواية “في بلاد الدخان” للكاتبة اللبنانية هدى عيد، تتناول رحلة البحث عن الحقيقة في عالم يكتنفه الغموض والضبابية. بالرغم من الحيويّة الواقعيّة في الرواية، والقضايا الإنسانيّة مثل البحث عن الذات والتحديات التي تواجه الإنسان في مجتمعه، مسلطة الضوء على التعقيدات النفسية والاجتماعية التي يمر بها الأفراد. 

وقد يوحي إلى حد ما تحليل ودراسة الهويّة على ضوء هذه الروايات ببعض السلبيات التي تنحدر بمستوى البحث او الدراسة التي بدت موضوعية في مستهلها. ففي فصل "تمثلات ثقافة العنف" ، يتم تحليل كيفية تجسيد العنف في الثقافة والمجتمعات المعاصرة وتأثيره على الهوية. 

ويبرز جليّاً موقف الروائية الذي تبنته الكاتبة إزاء الغرب في فصل “بلاد الدخان” كموقف تفكيكي للهوية بامتياز؛ فنقرأ أن الغرب ليس للنجاة، بل انه جزء من المنظومة التي ترفض المختلف، حتى لو كانت ترفع شعارات التعددية. ويظهر الغرب هنا لا كآخر منقذ، بل كمرآة مدببة، تعكس هشاشة موقع الفرد العربي في العالم الحديث، وتدعوه للتفكير في إعادة بناء ذاته خارج ثنائية “نحن” و”هم”. 

ثمّ يلفتك وانت غارق في الكتاب عنوان آخر، " المكان وتشكّل الوعي" يُقدّم طرحاً غنيّاً من حيث ربط التحوّلات النفسية والفكرية للشخصية " ابراهيم" بالفضاءات الجغرافية التي يتنقّلبينها، لكن ما يلفت النظر أكثر هو ميل الكاتبة الواضح نحو تمجيد الفضاء العربي المحلي، مقابل نقد صارم – وأحياناً مُطلق – للفضاء الغربي، بما يُلقي بظلال من التحيّز الأيديولوجي على النص، ويفقده شيئاً من التوازن المطلوب في الكتابة البحثية أو النقدية الأدبية.

وتنتقل بعده إلى عنوان " المكان كمنتِج للهوية" تبدأ الفصل بفرضية سليمة: أن المكان ليس مجرد خلفية، بل فاعل في تشكيل الوعي، وأن التنقّل بين الأمكنة يُحدث تحوّلات في إدراك الذات والعالم. غير أن هذا التصوّر سرعان ما يتحوّل إلى نوع من الثنائية الحادة: 
- الشرق/العالم العربي هو المكان المشحون بالدفء، والانتماء، والجذور، رغم مآسيه. 
- والغرب (خصوصاً باريس) تصوّره كمكان بارد، خادع، مجرّد، فاقد للروح.

وهذا الميل لتصوير العربي كابن الأرض، والغربي ككائن مغترب عن ذاته يشي بنزعة رومانسية تفتقر إلى التعقيد أوالحياد. بمعنى آخر إنّ الكاتبة تُظهر العربي وكأنه دائماً مرتبط بجذوره، بأرضه، بتاريخه، وكأنه أصيل، حقيقي، عاطفي، “ابن الأرض”.

في المقابل، تُظهر الغربي وكأنه ضائع، بلا جذور، يعيش في عالم مادي، بارد، مغترب حتى عن نفسه.

وهذا التصوير (العربي = أصالة وروح / الغربي = اغتراب وبرودة) يُعبّر عن نظرة عاطفية حالمة، نزعة رومانسية، لكنها سطحية أو مبسّطة لأنها لا تُظهر التعقيد الحقيقي لكل ثقافة، كما انها ليست حيادية في خدمة البحث الموضوعي القيّم، بل تميل إلى تمجيد طرف وشيطنة الآخر.

فالكاتبة لا تنظر إلى الهوية العربية والغربية بطريقة متوازنة ومعقّدة، بل بعين منحازة وعاطفية، تُمجّد طرفاً وتنتقص من الآخر، وهو ما يُضعف التحليل الموضوعي. ويتفاقم فقدان الموضوعية، حين تنتقد الغرب بوصفه الآخر المعطوب.  وتُسقط على المكان الغربي شبكة من الأحكام الأخلاقية الجاهزة. فباريس لا تُقدَّم كمكان متعدد ومتناقض، بل كرمز للهشاشة والسطحية والانفصال عن الجوهر الإنساني.

"ابراهيم" في الغرب يبدو فاقداً لصوته ووعيه، بينما يستعيد، في المقابل، شعلة إنسانيته كلما عاد إلى فضاء عربيأ و مشرقيا. وهذا الطرح يُظهر تحيّزاً صارخاً إلى "الهوية العربية الاصيلة" مقابل "الآخر الغربي المصطنع" وهو ما يُجرد التحليل من الصفة العلمية، لأن الكاتبة لا تُخضِع الفضاءين لنفس أدوات النقد، بل تستخدم معايير مزدوجة: الغرب يُحاسب على التناقضات، أما الشرق، فغالباً ما تُجمَّل تناقضاته بحجة العمق الروحي أو الجذور.

ويبدو هناك غياب واضح للمقارنة المتوازنة، إذ كان من الممكن أن تستثمر الكاتبة هذا الفصل في تقديم مقارنة تحليلية دقيقة بين تشكّل الوعي في فضاءات مختلفة مثل الريف، المدينة، المهجر، من دون أن تلبس كل مكان لباساً أخلاقياً مسبقاً. لكن التوجّه الأيديولوجي في الكتاب يُضعف هذه الإمكانية، ويجعل من التحليل نوعاً من الانحيازالمقنّع بأسلوب نقدي. 

من ناحية اخرى إنّ فصل المكان وتشكّل الوعي يُظهر قدرة الكاتبة على الربط بين الجغرافيا والهوية، لكنه ينزلق إلى خطاب تقويمي منحاز يُضخّم من "الهوية العربية" كفضاء أصيل، ويُفرغ "الآخر الغربي" من إمكانياته الإنسانية والمعرفية. وبهذا، يفقد النص توازنه النقدي، ويتحوّل من تحليل أدبي إلى خطاب أيديولوجي، مما يُضعف من قيمته العلمية وثرائه التحليلي، ويجعله في خانة الكتاب المقاوم وليس الدراسة الثقافية العلمية حول الهويّة. 

يشكّل النص حول أعطاب الهوية في رواية بلاد الدخان خاتمة كثيفة الدلالة في سياق مناقشة إشكاليّة الهوية ضمن كتاب الهويّة المفقودة، ويمكن تحليله من ثلاثة مستويات متداخلة: سياسي، فكري، وهويّاتي. ففيه يتقاطع العنف البنيوي الممارس من قِبل “المركز” (الغرب أو السلطة العالمية) مع الخذلان الداخلي في مجتمعات “الهامش” (الشرق/العالم العربي).

الهوية كموقع هشاشة مزدوجة: من الخارج والداخل تُعبّر الكاتبة عن هذه الفكرة في نصّ لا يُلقي اللوم على الغرب فقط، بل يُحمّل المجتمعات العربيّة مسؤولية فشلها في احتضان هذا النوع من الهوية. فشخصيّة “عقل” لم تُغتال فقط لأنه يمثّل خطراً على “النظام العالمي”، بل لأنه لم يجد بيئة عربية أو لبنانية حاضنة لفكره المختلف. وهنا تُطرَح “الهوية العربية المشتّتة” بوصفها عنصراً قاتلاً بحدّ ذاته؛ فالهامش لا يحمي أبناءه ولا يعترف بقيمتهم إلا بعد فوات الأوان. وبهذا، تصبح الهويّة المبدعة، حين تُهمَل محلّياً، مكشوفة ومعرّضة للتصفية الرمزيّة أو الماديّة.

تغدو الهويّة، في هذا السياق، مشروعاً سياسياً-وجودياً مهدَّداً، لا مجرّد انتماء ثقافي أو شخصي. من يحمل هويّة معرفيّة، حرّة، تتجاوز الحدود الضيقة، يُستهدف بالقمع من السلطة المركزيّة العالميّة ومن الداخل المحلي المتخاذل على حدّ سواء. وهنا تقترب الكاتبة من رؤية أمين معلوف في الهويّات القاتلة، لكن من زاوية مغايرة: ليست الهويّة ما يقتل، بل السياق الذي يرفضها أو يعجز عن حمايتها.

إنّ الفصل الذي تستشهد به الكاتبة وتتّخذه سنداً في تحليل تشكّل الهويّة، يُقدّم رؤية قاتمة ولكن صادقة لعلاقة الهويّة بالسلطة، وبمصير من يتبنّاها. فـ”عقل” لا يُغتال كفرد فحسب، بل كرمز لهويّة عربية معرفيّة مرفوضة من الطرفين: “المركز” الذي يخشى يقظتها، و”الهامش” الذي يتخلّى عنها.

غير أنّ النص، في هذا الموضع، يُظهر انزياحاً نحو خطاب الإدانة واللوم، تحديداً في تكرار الإشارة إلى فرنسا وشعاراتها، ممّا يُظهر تحاملاً ضمنياً على الغرب. وهذا ما قد يحدّ من موضوعيّته، إذ يقدّم سرديّة مشبعة بالأحكام والانفعالات، ويبتعد عن التحليل المتوازن الذي يُنتظَر من نصّ نقدي.

مع ذلك، يبقى النص صادقاً من حيث النوايا، ويعكس خيبة جماعيّة حقيقيّة تجاه واقع التهميش، سواء من الخارج أو من الداخل. لكنه لا يسعى إلى تفكيك الحدث (موت “عقل”) من زوايا متعدّدة (نفسية، اجتماعية، معرفية…)، بل يركّز على تحميل المسؤولية لجهة واحدة، مما يفقد النص التعدديّة اللازمة في مقاربة نقديّة رصينة. من هنا، يمكن اعتباره نصاً مقاوماً أكثر منه تحليلياً.

المرأة كرمز للهويّة والسلطة الناعمة
يتقدّم النص لاحقاً نحو عنصر فاعل آخر في تشكيل الهوية، ألا وهو المرأة، كما صوّرتها الكاتبة برمزيّتها في عنوان “الاستبداد الناعم”، حيث يُعبّر النص بوضوح عن موقف نقدي تجاه الهيمنة الغربيّة (المتمثّلة في شخصية أرمال/فرنسا) ومؤسّسات إنتاج المعرفة (كالجامعة)، مبيّناً كيف تُمارَس السلطة ليس عبر العنف الصريح، بل من خلال أدوات ناعمة تغلّف القيد بالحرير.

المرأة هنا لا تُقدَّم كضحية، بل تتحوّل إلى رمز للقوّة الناعمة، إما كفاعل مهيمن (أرمال)، أو ككائن صامت مَقْهور (وفيقة). ويُبرز هذا التوظيف الرمزي قدرة الاستبداد الناعم على اختراق النفس وتفكيك الهويّة دون طلقة واحدة.

ثمّ يعود النصّ إلى نقد جذرِيّ للهيمنة الغربية الناعمة، ويُصوّر العلاقة بين الغرب والشرق كعلاقة غير متكافئة تقوم على التبعيّة المقنّعة. وتتحوّل بذلك المرأة، والعلم، والجامعة، والحب، وحتى القيم الليبرالية، إلى أدوات سيطرة خفيّة، في مقابل انتصار سردي للذات العربيّة المهمّشة التي يُراد لها أن تُمحى أو تُحتوى ثقافياً.

بين التعبير الصادق والتحليل المتوازن
مرة أخرى، يفتقر النص إلى الحياد التحليلي، ويميل إلى شيطنة الغرب وتقديم الذات العربيّة كضحيّة مطلقة، دون مساءلة الداخل أو الاعتراف بتعقيدات الواقع. إنه نصّ أيديولوجي، نقديّ، قويّ التعبير، لكنّه مشبع بالغضب والدفاع عن الهوية، ما يجعله مؤثّراً وجدانياً أكثر من كونه متوازناً تحليلياً. 

تشكل رواية قيد الدرس رحلة بحثٍ عن الذات، ذات طابع استبطاني (introspective)، في ظل غياب متعدّد الأوجه: غياب الوطن، وغياب الاعتراف، وغياب الحب، وحتى غياب العدالة. بأسلوب شاعري حساس، تكتب لنا رشا الأطرش سيرة أنثوية فلسطينية-لبنانية، تنسج فيها الألم بالنضج، والصمت بالتمرّد. إنها رواية الهويات المؤجَّلة، حيث يُروى الجرح الفلسطيني من زاوية فرديّة وشخصية، لا من منظور سياسي محض.

جاءت دراسة هذه الرواية بصيغة تحليل نفسي-اجتماعي دقيق لمسألة الهوية، منطلقة من معاناة شخصية “باسم”، التي تتقاطع فيها أزمتا الفقد الأبوي والفقد الوطني. يطرح النص فكرة محورية مفادها أن غياب الأب يعادل غياب الوطن، وكلاهما يُفضيان إلى يُتمٍ نفسي واجتماعي، حيث لا تكتمل شخصية الإنسان إلا بانتمائه إلى أسرة حامية ووطن معترف به. “باسم”، الذي وُلد محروماً من الأب ومن الهوية اللبنانية، يدخل منذ طفولته في حالة اغتراب وجودي دائم، ويتحوّل سؤال الهوية لديه إلى هاجس ملازم لوجوده الجسدي، بخلاف شخصيات أخرى كـ”حسان” و”ليلى”، اللذين لم يبدأ وعيهما بالهوية إلا في سنّ المراهقة.

يفعّل النص التحليلي نظريات نفسية كـ”نظرية إريكسون”، التي تؤكد أن فشل الفرد في اجتياز مراحل نموه النفسي يؤثر سلباً على توازنه في الحياة اللاحقة، و”هرم ماسلو”، الذي يربط تحقيق الذات بتحقّق حاجات الأمان والانتماء.

ويبرز التحليل أن الهوية ليست مجرّد حالة قانونية أو وثيقة رسمية، بل هي شعور داخلي بالانتماء والحضور والحماية. فغياب الأب أو الوطن لا يخلّف فراغاً خارجياً فقط، بل يحدث شرخاً داخلياً عميقاً، ينعكس على قدرة الفرد على بناء علاقات مستقرة وتواصليّة، سواء في الإطار الأسري أو الاجتماعي.

ومع أن التحليل يُركّز بعمق على البعدين الأبوي والوطني، إلا أنه يغفل، إلى حدّ ما، إمكانيات المقاومة الفردية، أو قدرة الشخصيات على إعادة تشكيل ذواتها خارج النموذج التقليدي للأسرة أو الدولة. ومع ذلك، يبقى النص تأملاً ثرياً في الهوية ككائن هشّ، متحوّل، مسكون بالفقد، ودائم السعي إلى الانتماء.

لقد نجح التحليل في إبراز كيف يتحوّل غياب الأب والحرمان من الوطن إلى عاملين وجوديَّين يُشكّلان جوهر أزمة الهوية، مبيّناً أن الهوية لا تُبنى فقط عبر الاعتراف القانوني أو الاجتماعي، بل عبر شعور داخلي بالأمان والانتماء.

غير أن النص يميل إلى التركيز شبه الحصري على الفقد، دون إفساح حيّز كافٍ لفكرة المقاومة أو إمكانيات الترميم النفسي والاجتماعي، ما يجعل الطرح أقرب إلى مقاربة قدرية تشاؤمية. كما يغيب البعد الرمزي أو الأدبي لصالح تحليل تفسيري مباشر. ومع ذلك، تبقى قوّة النص في دقته المنهجية، وعمق استبصاره لتجربة الشتات الفلسطيني-اللبناني، وتعامله مع مسألة الهوية لا كإشكال سياسي فقط، بل كمعاناة وجودية تتجسّد في تفاصيل الحياة اليومية ومآزق الانتماء. 

نص لافت 
يعرض النص صورة نقدية حادة لمجتمع بدوي مغلق، يرزح تحت الفقر والتهميش والعزلة، ويتجسد في منطقة “دير السرو” كعالم منغلق على ذاته، عاجز عن التغيير. يركّز التحليل على موقع المرأة المختزل في أدوار تقليدية، وتُعامل كملكية للرجل، كما تُجسّد شخصية “ليلى” هذا القهر عبر زواج قسري بدافع الخوف. ويقارن النص بذكاء بين التشييء في المجتمع العشائري والتشييء في عالم ما بعد الحداثة، حيث يُفرّغ الإنسان من قيمته إما باسم العشيرة أو الآلة، ليقدّم رؤية نقدية مزدوجة تُدين القهر التقليدي وتحذّر من وهم التقدّم التقني.

وفي القسم الثاني، يتناول النص حالة “حسن” بوصفها نموذجاً للاستلاب الفكري والعقائدي الناتج عن الفقد والحرمان والتهميش. يجد حسن في الجماعة المتطرفة ملاذاً كاذباً يعوّض افتقاده للأسرة والوطن والانتماء، ويقع فريسة خطاب يقيني يُخدّر هشاشته النفسية. يُحلّل النص تطوّر الاستلاب من الفراغ إلى الخضوع فالانهيار، كاشفاً أن التطرف ليس نتاجاً دينياً بقدر ما هو نتيجة لفراغ رمزي واجتماعي، حيث تتحوّل الجماعة إلى “عائلة بديلة” تستغل ضعفه وتحوّله إلى أداة عنف.

يتّسم التحليل فيه بلغة متوازنة وعمق تأويلي، يربط بين البنى النفسية والاجتماعية دون اختزال، ويكشف نقداً لآليات استغلال الهوية والانتماء. كما يبرز الطرح وعياً بالعلاقة بين التهميش والتطرّف، مع إشارة إلى هيمنة بعد تقويمي إنساني قد يحد من الحياد الأكاديمي، دون أن ينقص من قيمة النص كمقاربة متماسكة ومنفتحة على مستويات متعددة من التأويل.

الرواية الرابعة 
يعرض النص صورة نقدية حادة لمجتمع بدوي مغلق يرزح تحت وطأة الفقر والتهميش والعزلة، متجسداً في منطقة “دير السرو” كعالم منغلق على ذاته، عاجز عن التغيير. يركّز التحليل على موقع المرأة المختزل في أدوار تقليدية، حيث تُعامل كملكية للرجل، وهو ما تجسّده شخصية “ليلى” من خلال زواج قسري مدفوع بالخوف. وبذكاء، يقارن النص بين التشييء في المجتمع العشائري والتشييء في عالم ما بعد الحداثة، حيث يُفرّغ الإنسان من قيمته، إما باسم العشيرة أو باسم الآلة، فيقدّم رؤية نقدية مزدوجة تُدين القهر التقليدي وتحذّر من وهم التقدّم التقني.

في القسم الثاني، يتناول النص حالة “حسن” كنموذج للاستلاب الفكري والعقائدي الناتج عن الفقد والحرمان والتهميش، حيث يجد في الجماعة المتطرفة ملاذاً كاذباً يعوّض افتقاده للأسرة والوطن والانتماء. يقع فريسة لخطاب يقيني يُخدّر هشاشته النفسية، ويتتبع التحليل تطوّر هذا الاستلاب من الفراغ، إلى الخضوع، فالانهيار، موضحاً أن التطرّف ليس نتيجة دينية بقدر ما هو انعكاس لفراغ رمزي واجتماعي، حيث تتحول الجماعة إلى “عائلة بديلة” تستغل ضعفه وتحوله إلى أداة عنف.

يتّسم التحليل بلغة متوازنة وعمق تأويلي يربط بين البنى النفسية والاجتماعية دون اختزال، ويكشف عن وعي نقدي بآليات استغلال الهوية والانتماء. كما يبرز وعياً بالعلاقة الوثيقة بين التهميش والتطرّف، وإن طغى عليه في بعض المواضع بعدٌ تقويمي إنساني قد يحدّ من الحياد الأكاديمي، دون أن يقلّل من قيمة النص كمقاربة منفتحة ومتماسكة على مستويات متعددة من التأويل.

في هذا السياق، تُطرح الهوية بوصفها قضية محورية شديدة التعقيد، تتجاوز أطرها القانونية والإدارية لتلامس مستويات أعمق من الانتماء والاعتراف والكرامة الإنسانية. فهي ليست مجرد وثيقة ثبوتية، بل تجربة معيشة متجذّرة في الأرض واللغة والذاكرة والتاريخ المشترك. وتكشف الروايات المدروسة كيف تُختزل الهوية في السياق اللبناني إلى بُعد طائفي وقانوني صارم، حيث يُقاس الانتماء وفق معايير سياسية لا إنسانية، ما يؤدي إلى تهميش مزدوج، وطنياً وجندرياً، كما يتجلّى في حرمان المرأة من حق منح الجنسية، ورفض الفلسطيني رغم تقاطعاته الثقافية والجغرافية مع الواقع اللبناني.

تطرح شخصيتا منيف وناصر رؤية بديلة للهوية تقوم على العيش المشترك، واللغة، والتجربة الجمعية، وهي مقاربة تنسجم مع الفهم الثقافي للهوية وتعارض التصوّرات الرسمية المغلقة التي تختزل الآخر في صورة مشبوهة، حتى وإن كان من أبناء الأرض. وهكذا، تكشف هذه الروايات عن توتر دائم بين ما هو إنساني مشترك، وما هو سياسي وقانوني إقصائي، حيث تصبح الهوية أداة للنبذ لا للانتماء، وحاجزاً بدلاً من أن تكون مظلّة جامعة.

يستند التحليل إلى وعي نقدي متماسك بالعلاقة الجدلية بين الذات والآخر، ويستلهم من النظريات المعاصرة، خصوصاً أطروحات بول ريكور حول “صراع الاعتراف” وشارل تايلور حول الهوية كمشروع تفاعلي مفتوح. يتجلى هذا الطرح في الشخصيات الروائية التي تبحث عن هوية ضائعة أو مسلوبة، وتُستثمر المفاهيم النظرية مثل الغيرية والانتماء والهوية المركبة لتفكيك بنيات السرد.

استنتاج 
تعكس الروايات تمزقات الواقع اللبناني، حيث يتحوّل التعدد الطائفي إلى مصدر صراع لا وحدة. فشخصيات مثل نظام، وفيقة، ناصر، باسم، وحسن، لا تجد في هذا التعدد وطناً، بل تنتهي بالموت أو الاغتراب أو الانفصال، في تكرار للأزمة البنيوية في الهوية اللبنانية. ويمتاز التحليل بقدرته على الربط بين المتخيّل الروائي والواقع الراهن، لا سيما عبر استحضار غزة 2023، حيث يلتقي الأدب مع المأساة العربية، ويصبح السرد وسيلة للتفكير في الهوية في علاقتها بالعدالة والانتماء والمقاومة.

ويبرز بين الروايات قاسم مشترك يتمثّل في رفض الآخر، واختزال الهوية إلى مجرد بطاقة قانونية، ما يكشف أزمة هوية مزدوجة: داخلية تُقصي المختلف، وخارجية تُضعف الانتماء العربي الأشمل. كما تبقى القضية الفلسطينية حاضرة كمفتاح لفهم معنى الوطن والهوية، حيث يظهر أن الهوية المفقودة لا تنفصل عن واقع الاحتلال والخذلان، كما يتجلّى بوضوح في روايتي قيد الدرس وفاقد الهوية.

في النهاية، يقدّم النص قراءة نقدية ثرية تكشف عن عمق أزمة الهوية في الرواية اللبنانية، وتربط بين الأدب والبنية الثقافية والسياسية للمجتمع، مطوّرةً رؤية استشرافية مشبعة بالألم، لكنها لا تخلو من الأمل. إنها دعوة صريحة لإعادة التفكير في مفهوم الهوية بوصفه انتماءً إنسانياً مشتركاً لا تحدّه القوانين، بل يزهر بالاعتراف والكرامة. 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق