نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
"ريكويم" موزارت في السرايا الحكومية: "قداس" يُنبئ بقيامة وطن - تكنو بلس, اليوم الخميس 17 أبريل 2025 08:05 صباحاً
ش. ب.
ليلة الثلاثاء، تخلّت السرايا الحكومية في بيروت عن كونها مبنى سياسياً تقليدياً، وتحوّلت إلى صرح موسيقي، ارتفعت فيه أرواحنا مع نغمات "ريكويم" موزارت، أو سمفونية "القداس الجنائزي"؛ تلك الرائعة الخالدة التي لا تُؤدّى فحسب، بل تُستحضر كما تُستحضر القيامة، التي نقف على مشارفها. حفل تخطّى العرض الكلاسيكي إلى لحظة نادرة تشعر فيها أنّ الوطن، بوجعه وفي رماده، يمكن أن يُولَد من جديد على إيقاع الموسيقى.
حين يصدح صوت الأوركسترا الفيلهارمونية الوطنية بقيادة المايسترو لبنان بعلبكي، تشعر بأن شيئاً ما يتبدّل في فضاء القاعة؛ شيء يتجاوز الصنعة الموسيقية إلى جوهر الإنسان؛ شيء يعصف بنا فندخل في رحلة تطهير النفس. كانت البداية بنغمات بطيئة وخافتة، كأنها تنهيدة شعب بأكمله، ثم راحت الأصوات تعلو، تتشابك، تتناوب بين سؤال الحياة واستحقاق الموت. صوت كورال جامعة سيدة اللويزة، بقيادة الأب خليل رحمة، كان كصلوات متدفّقة من الأعماق، تذيب الزمن، فننساه، ويُصبح الوقت لحظة رجاء وانخطاف سعيد.
"موحدون في الجمال"
"ريكويم" موزارت، الذي كتبه وهو يحدّق في موته، بدّل معناه ذلك المساء، وأعتقه بعلبكي والكورال من كونه مجرّد مرثاة، فتحوّل إلى وعد بالقيامة. لم تكن الألحان الثقيلة القاتمة نذير فناء، بل جرس بداية، وكذلك لم يكن صوت السوبرانو الحالم بكاءً، بل نوراً يتسرّب من كوّة ضيّقة عند سقف داكن.
يذكّر بعلبكي بأنّها "ليست هذه المرة الأولى التي تقدّم فيها الأوركسترا الفيلهارمونية الوطنية حفلاً موسيقياً في السرايا الحكومية، إذ سبق لها أن حلّت في الصرح ضمن سلسلة من الفعاليات السابقة"، مشيراً في حديث لـ"النهار" إلى أنّ "ما يميّز هذا الحفل تحديداً هو رمزيته، إذ عبّر رئيس الحكومة نواف سلام من خلاله عن اعتبار السرايا بيتاً لجميع اللبنانيين، ومساحة مفتوحة يمكن أن تحتضن الثقافة والفن".
المايسترو لبنان بعلبكي وخلفه الأوركسترا الفيلهارمونية الوطنية. (نبيل إسماعيل)
مع ذلك، يرى بعلبكي أنّه "لا نزال بحاجة ماسّة إلى قاعة عروض نموذجية دائمة مخصّصة للحفلات الموسيقية، بعيداً عن الأمكنة الموقّتة كالسرايا أو حتى الكنائس"، وذلك من أجل إرساء تقليد ثقافيّ مستدام يتيح للأوركسترا تقديم عروضها بشكل دوري ومنتظم.
بدا "قداس" موزارت في السرايا كأنه تذكير بأنّ "لبنان أكثر من بلد. إنه رسالة". وليس أبلغ ممّا قالته رئيسة الكونسرفتوار، المؤلِّفة الموسيقية هبة القواس، لوصف رمزية الحفل: "من هنا، حيث تُصنع القرارات وترسم ملامح الدولة، نلتقي اليوم لا في حدث سياسيّ أو احتفال بروتوكولي، بل في لقاء ثقافي - روحي - إنساني، يعبر بالوطن من مفهوم الدولة إلى معنى الرسالة".

رئيس الحكومة نواف سلام مرحباً بالحضور. (نبيل إسماعيل)
ورأت القواس أنّ في الحفل "دعوة نادرة مميزة تعلن لبنان الرسالة، لبنان الذي يتّسع ويحتضن مختلف الطوائف والمذاهب ويعالج الانقسامات، ليعلن بصوت الموسيقى أننا موحدون في الجمال، في الإبداع، في الإيمان بقوة الإنسان".
حضور الدولة في الفن
يلفت بعلبكي أنّ "ريكويم" موزارت هو من بين أكثر الأعمال الكلاسيكية أداءً حول العالم، ويُعدّ من روائع الريبرتوار العالمي. "كنّا قد قدّمناه قبل نحو شهر ونصف شهر في كنيسة القديس يوسف - بيروت، وسط حضور جماهيري كبير"، يقول، "وجاء العرض الأخير في السرايا امتداداً لذلك النجاح، وأداءً يتقاطع مع رمزية أسبوع الآلام لدى الطوائف المسيحية"، في توقيت بالغ الدلالة والإيحاء.

وزير الثقافة يتوسط هبة القواس ولبنان بعلبكي. (نبيل إسماعيل)
في هذه المساحة، لم نكن ننتظر خطاباً سياسياً، بل كنا نصغي إلى ما هو أعمق: إلى شهادة جمال ومقاومة موسيقية أمام التفكّك. الأصوات الفردية للصوليستات ماري- جوزيه مطر، ميلاني أشقر، بشارة مفرج وبرونو خوري، حملت كلّ منها حكاية، فكانت مشاهد من حياة وطنية طويلة ترفض أن تموت. وفي كلّ حركة من يد بعلبكي، شعرنا أنّ ثمة من يقودنا من العتمة نحو الضوء.
إنها تجربة روحية - ثقافية، أعادت المعنى إلى حضور الدولة في الفن. أن تُفتَح السرايا الكبيرة للموسيقى هو اعتراف بأنّ الفن قادر على بناء ما تهدّمه السياسة، وأنّ في قلب هذا الوطن مكاناً لما يسمو عن اليومي، لما هو خالد وأبدي.
0 تعليق