في قلب الجنوب الإيطالي، بعيدًا عن صخب المدن الكبرى والسواحل السياحية المزدحمة، تتناثر قرى حجرية منسية تحتفظ بعبق الماضي وأصالة العيش البسيط. هذه القرى، التي تتشبث بجذورها فوق التلال والمنحدرات، تشكل تجربة فريدة لكل من يسعى لاكتشاف وجه مختلف لإيطاليا، وجه لا تلمسه الحداثة كثيرًا، ويبدو كأنه مجمّد في الزمن. الرحلة إلى هذه القرى ليست مجرد زيارة سياحية، بل غوص في التاريخ، حيث الجدران تحكي، والحجارة تنبض بالحكايات القديمة.

بلدات مهجورة تنبض بالحياة رغم الصمت

من بين أبرز هذه القرى نجد "كراكو" (Craco)، وهي قرية مهجورة في إقليم بازيليكاتا، أُجبرت على الإخلاء بعد انزلاقات أرضية في القرن العشرين، لكن منازلها الحجرية ما زالت قائمة في صمت مهيب. عند التجول فيها، يشعر الزائر كأنه يسير في مسرح مفتوح بلا ممثلين، حيث الشوارع الضيقة والبيوت المتداعية تروي بصمتها قصصًا عن أجيال مضت. كذلك نجد "ريتسا" و"أليانو"، وهما قريتان تتناثر فيهما آثار المعمار القروي القديم وسط طبيعة خلابة، وكل زاوية فيهما تصلح لأن تكون مشهدًا سينمائيًا لتجسيد زمن مضى.

القرى الحجرية في جنوب إيطاليا تتميز بطراز معماري فريد يمزج بين الوظيفة والجمال. البيوت مبنية من الحجر المحلي، بأسقف من الطين أو القرميد، ومداخل منخفضة تحافظ على دفء المكان في الشتاء وبرودته في الصيف. الكثير من هذه المنازل ما زال يحتفظ بمدافئه التقليدية ومطابخه الريفية التي تشتعل فيها النيران بالحطب. هذا النمط المعماري يعكس تناغم الإنسان مع بيئته قبل قرون. كما أن الأسواق المحلية – وإن كانت صغيرة – تقدم منتجات تقليدية مثل الجبن وزيت الزيتون والنبيذ المصنوع منزليًا، ما يمنح الزائر طعمًا أصيلًا من حياة الأجداد.

في زمن تغلب عليه السرعة والازدحام، تتيح هذه القرى للزائر استراحة من الزمن الحديث، وفرصة للتأمل وإعادة الاتصال بالجذور. زيارتها ليست مجرد رحلة، بل هي تجربة شخصية تقرب الإنسان من بساطة العيش وروح الجماعة القديمة. كما أن السلطات الإيطالية بدأت مؤخرًا في إعادة إحياء بعض هذه القرى عبر دعم مشاريع سياحة مستدامة وإقامات فنية وثقافية، ما يجعل زيارتها الآن دعمًا لجهود الحفاظ على هذا التراث الفريد. في جنوب إيطاليا، حيث تغفو قرى منسية بين الجبال، ما زال الزمن يهمس بكل هدوء لمن يريد أن يسمع.