نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
المسيحية أفيون المسيحيين أم صوت الضعفاء في الضمير العالمي؟ - تكنو بلس, اليوم الأربعاء 21 مايو 2025 10:42 صباحاً
في كلمته في يوم تنصيبه، رأى البابا لاوون الرابع عشر "أن الكنيسة لا يمكنها البقاء صامتة أمام التفاوت الاقتصادي والظلم البيئي"، مؤكدًا "ضرورة أن تظل حاضرة في الضمير العالمي كصوت للضعفاء"، رافضا "نموذجا اقتصاديا يستغل موارد الأرض ويهمش الفقراء".
رغم غموض او عمومية بعض التعابير المستخدمة، مثل "التفاوت الاقتصادي" و"النموذج الاقتصادي"، الا ان المقصود بالتأكيد هو رفض نوع من النظام الاقتصادي يولّد الفقر ويهمّش الفقراء، مما يحتّم على الكنيسة أن تكون صوت الفقراء.
يستعيد لاوون الرابع عشر في كلامه هذا موقف سلفه البابا فرنسيس الذي أكد مراراً على أن كنيسة يسوع هي كنيسة الفقراء، وبالتالي صوتها هو صوتهم.
يردد الناس مقولة ماركس ان "الدين افيون الشعوب" لكنهم يقتطعونها من سياقها، مما يولّد انطباعاً خاطئاً حول فهم ماركس للدين وتالياً حول الموقف منه. يقول ماركس: "الدين زفرة الإنسان المسحوق، روح عالم لا قلب له، كما أنه روح الظروف الاجتماعية التي طرد منها الروح. إنه أفيون الشعب.».
بالنسبة لماركس اذاً، من الطبيعي ان يلجأ الناس الى الدين(أكان يهودياً او مسيحياً او مسلماً) في عالم مادي رأسمالي، حيث الظروف الاجتماعية تسحق الانسان، وتجعل منه بالتالي تواقاً الى الدين اي الى روح في عالم لا قلب له. لكن لأن الدين يعلّم الناس على تقبل الواقع طمعاً بعالم آخر بعد الموت يكون أكثر عدالة، يعتبر ماركس ان الدين يلعب في هذه الحالة دور الافيون الذي يخدّر الشعوب ويدفع بها الى الاستكانة بدل الثورة على النظام القائم، وبناء نظام آخر أكثر عدلاً.
لطالما لعبت الكنائس المسيحية هذا الدور التخديري في السابق، مما حمل فيلسوفاً مثل نيتشيه على صب جام غضبه على المسيحية وعلى الضعفاء بشكل عام، ولو لدوافع إضافية: "على الضعفاء والمهمَلين ان يهلكوا: هذا هو المبدأ الأول لصَدَقَتِنا. ويجب مساعدتهم على ذلك. ما هو أشد ضررًا من أي رذيلة؟ انه التعاطف العملي مع المهملين والضعفاء. انها المسيحية."
اتهم نيتشيه المسيحية بتمجيد الضعف والهشاشة، فيما هو كان يشيد بالقوة وبدورها في الترقي الانساني. ماركس كان أعمق في فهمه للمسيحية مع ان الاثنين طالبا بالتخلص منها على طريق تحرر الإنسان.
هذه النظرة الى المسيحية رد عليها جبران خليل جبران بالكثير من الغضب: " ما عاش يسوع مسكيناً خائفاً ولم يمت شاكياً متَوجِّعاً بل عاش ثائراً وصُلِبَ مُتمرِّداً ومات جبَّاراً. لم يكُنْ يسوع طائراً مكسور الجناحين بل كان عاصفة هوجاء تكسر بهبوبها جميع الأجنحة المعوجَّة. لم يجيء يسوع من وراء الشفق الأزرق ليجعل الألم رمزاً للحياة بل جاء ليجعل الحياة رمزاً للحقّ والحريَّة." لم يكن جبران يرد في الواقع على الفلاسفة الذين انتقدوا المسيحية بل على المسيحيين تحديداً ولا سيما على تعاليم رجال الدين المسيحيين، الذين دعوا إلى الاستسلام للواقع وتمجيد الألم والعذاب.
هذا لم يكن حال الكثير من رجال الدين المسيحيين في اميركا الجنوبية، والتي نشأ فيها البابا فرنسيس ومارس فيها لاوون الرابع رسالته الكهنوتية قبل أن يُنتخب بابا.
إن بعض من رجال الدين هؤلاء، صاغوا على ضوء تجربتهم مع الفقراء ما يُعرف ب"لاهوت التحرير" وهو "مزيج من اللاهوت المسيحي والتحليلات الاجتماعية-الاقتصادية الماركسية، التي تشدد على الاهتمام الاجتماعي بالفقراء، والتحرر السياسي للشعوب المضطهدة، وهو ما كان يمثل الممارسة السياسية لعلماء الدين في أمريكا اللاتينية في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، مثل جوستافو غوتياريز من البيرو، ليوناردو بوف من البرازيل، وخوان لويس سيغوندو من الأوروجواي، وجون سوبرينو من إسبانيا."
فرنسيس ولاوون الرابع عشر لم يتبنوا لاهوت التحرير ولو انهما تشربا من مفاهيمه وتوجهاته، وانخرطا في البيئة التي نشأ فيها. بعضهم يعتقد ان البابوين المذكورين هما أقرب الى ما يُعرف ب"لاهوت الناس"، وهو لاهوت لا يزال يحتاج الى بلورة أوسع ترافق الممارسات البابوية التي اسس لها فرنسيس وقد يستكملها البابا الجديد.
هذا التقاطع بين النزعة المسيحية الانسانية والنزعة المنتقدة للعولمة الرأسمالية التي تجرّد الإنسان من انسانيته لصالح المادة والمال، قد تلقى المزيد من فرص التعاون مع حبرية البابا لاوون الرابع عشر.
وكان البابا الجديد قد لفت إلى أنّه "اختار اسمه البابوي لتكريم البابا ليون الثالث عشر (1878-1903) الذي كان معروفاً بدفاعه عن العدالة الاجتماعية وسعيه من أجل أجور عادلة ومعاملة عادلة للعمال خلال الثورة الصناعية". مضيفاً
انه "على الكنيسة الآن أن تأخذ زمام المبادرة في مواجهة التهديدات الجديدة التي تواجه العمال، مثل الذكاء الاصطناعي الذي يطرح تحدّيات جديدة للدفاع عن كرامة الإنسان والعدالة والعمل".
مع بداية الثورة الصناعية جرى انتقاد تقسيم العمل الرأسمالي لأنه بتجزئته العمل يجزء الإنسان ويمنعه من تطوير كامل ملكاته وقدراته، مما يحول دون ان يصبح "انساناً كاملاً". وقد ذهب كارل ماركس الى حد القول ان " تجزئة الإنسان هو إغتياله....ان تقسيم العمل وتجزئته هو إغتيال شعب".
مع الذكاء الاصطناعي وفصل عقل الإنسان عن جسده وتهديد معظم المهن بالانقراض والاستعاضة عن عمل الإنسان بالرجل الآلي، نقترب من القول اننا بذلك لا نغتال شخصاً او شعباً بل الانسانية جمعاء.
تبدو لي هذه المرحلة التاريخية ملائمة لتعاون جميع الذين يعملون من أجل تحرير الإنسان من الاستغلال الرأسمالي وهيمنة قيم المال على حساب كرامة الإنسان وطبيعته الانسانية. وربما كان للكنيسة الكاثوليكية الدور المركزي في ذلك في سياق المواجهة القيمية، التي اسس لها البابا فرنسيس، بينها وبين الرئيس الحالي للولايات المتحدة الذي يُبرز الوجه الابشع للرأسمالية المتفلتة من كل عقال، حتى من القيم التي ساهمت هي في تعميمها خلال مسارات توسعها، وبهدف تمكينها من الاستمرار وتخطي أزماتها.
كيف يمكن للكنائس المسيحية الكاثوليكية في لبنان ان تتموضع في إطار هذا الصراع المحتمل، في ظل توسع تأثير الترامبية وإيديولوجية "اليمين المسيحي" في الاوساط المسيحية الرسمية والشعبية، ومع توقع انتخاب بطريرك ماروني جديد من المفترض ان يواكب السياسات الفاتيكانية الحالية؟
0 تعليق