نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
خفض موديز للتصنيف الائتماني الأميركي: تحذير مبكر أم بداية أزمة؟ - تكنو بلس, اليوم الاثنين 19 مايو 2025 11:22 صباحاً
في خطوة مفاجئة للمستثمرين والأسواق، أعلنت وكالة موديز عن خفض التصنيف الائتماني السيادي للولايات المتحدة الأميركية من الدرجة الأعلى Aaa إلى Aa1، مع نظرة مستقبلية مستقرة. وتُعد هذه المرة الأولى التي تفقد فيها الولايات المتحدة هذا التصنيف من موديز منذ أكثر من قرن، بعد أن سبق لوكالتي ستاندرد آند بورز خفض التصنيف في 2011 وفيتش في 2023. وقد أثار هذا القرار ردود فعل قوية في الأسواق المالية العالمية، لما له من دلالات مالية وسياسية بعيدة المدى.
الأسباب التي دفعت وكالة موديز لخفض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة
جاء قرار موديز خفض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة نتيجة مجموعة من العوامل المتداخلة التي تعكس هشاشة الوضع المالي العام في البلاد، وتفاقم الضغوط المستقبلية على الميزانية الفيديرالية. في مقدم هذه العوامل، يأتي الارتفاع الحاد في الدين العام الأميركي، بحيث بلغ الدين الفيديرالي أكثر من 36 تريليون دولار، وهو رقم غير مسبوق في التاريخ المالي للولايات المتحدة. وتشير توقعات موديز إلى أن هذا الدين سيواصل مساره التصاعدي ليصل إلى نحو 134% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2035، مقارنة بـ98% فقط في عام 2023، وهو ما يعكس تسارعًا مقلقًا في وتيرة الاقتراض من دون وجود خطة فعالة للضبط المالي.
إلى جانب ذلك، تبرز تكلفة خدمة هذا الدين كعبء إضافي على المالية العامة. إذ تُقدّر موديز أن مدفوعات الفائدة وحدها ستستهلك قرابة 30% من الإيرادات الفيديرالية بحلول عام 2035، بعد أن كانت تشكل 18% فقط في 2024، و9% قبل أقل من أربع سنوات. هذا الاتجاه يحدّ من قدرة الحكومة على الإنفاق التنموي ويجعلها أكثر عرضة لتقلبات أسعار الفائدة العالمية.
العامل الثالث الذي ساهم في خفض التصنيف هو العجز المالي الهيكلي المستمر، والذي يُتوقع أن يبلغ حوالى 9% من الناتج المحلي الإجمالي خلال السنوات القادمة. ويعزى هذا العجز إلى مزيج من ارتفاع الإنفاق على البرامج الاجتماعية والرعاية الصحية، إلى جانب تراجع الإيرادات الضريبية نتيجة تباطؤ النمو الاقتصادي. هذا العجز المزمن لا يشكل تحديًا محاسبيًا فحسب، بل يعكس عجزًا في الرؤية الاقتصادية والإدارة المالية طويلة الأجل.
لكن ربما الأكثر خطورة من كل ما سبق هو الجمود السياسي المستمر في واشنطن وفشل الإدارات الأميركية المتعاقبة والكونغرس في الاتفاق على إصلاحات مالية جوهرية أو تبني استراتيجية مستدامة لتقليص العجز وضبط الدين. هذا الانقسام السياسي يعمق الشكوك في قدرة النظام السياسي الأميركي على الاستجابة بفعالية للتحديات الاقتصادية الكبرى، ويُضعف الثقة الدولية بالدين السيادي الأميركي.
موديز (وكالات)
التبعات الاقتصادية والمالية على الأسواق العالمية
قرار موديز خفض التصنيف لم يكن مجرد إجراء تقني، بل كانت له آثار سريعة ومباشرة على الأسواق المالية العالمية. فعلى صعيد سوق السندات، شهدت سندات الخزانة الأميركية موجة بيع واسعة، مما دفع العوائد إلى الارتفاع الحاد، خصوصاً على السندات ذات أجل عشر سنوات. هذا الارتفاع يعكس قلق المستثمرين من احتمال التعثر أو التباطؤ في قدرة الولايات المتحدة على الوفاء بالتزاماتها المالية، أو من تآكل القيمة الحقيقية لتلك السندات بسبب التضخم أو التقلبات في السياسة النقدية.
في الوقت نفسه، تعرضت مؤشرات الأسهم الأميركية لضغوط قوية، إذ شهدت وول ستريت تراجعات واضحة مع افتتاح الأسبوع، قبل أن تمتد هذه الخسائر إلى الأسواق الأوروبية والآسيوية، إذ أن التأثير لم يكن محليًا فقط، بل حمل طابعًا عالميًا، نتيجة الدور المحوري الذي يلعبه الاقتصاد الأميركي في النظام المالي العالمي.
من جهة أخرى، تراجع الدولار الأميركي بشكل لافت، بحيث هبط مؤشر الدولار إلى أدنى مستوياته منذ أكثر من شهر. ويعزى هذا التراجع إلى موجة بيع للدولار من المستثمرين الذين أعادوا تقييم مخاطر حيازته في ظل أجواء عدم اليقين. كما ساهمت التوقعات المتزايدة في أن يقوم الاحتياطي الفيديرالي الأميركي بخفض أسعار الفائدة لاحقًا هذا العام أو في عام 2026، في زيادة الضغط على الدولار.
في المقابل، برزت الأصول الآمنة كوجهة مفضلة للمستثمرين في هذا المناخ، وعلى رأسها الذهب، الذي تجاوز سعره حاجز 3,250 دولارًا للأونصة، مدعومًا بموجة شراء قوية تعكس انتقال رؤوس الأموال من الأصول الخطرة إلى الأدوات الدفاعية. كما شهد الين الياباني والفرنك السويسري ارتفاعات واضحة، باعتبارهما من أبرز عملات الملاذ الآمن.
أما على صعيد المعنويات العامة في السوق، فقد لوحظ تحوّل واضح نحو ما تُعرف بحالة "العزوف عن المخاطر" أو (Risk-Off). إذ انسحب المستثمرون من الأصول العالية المخاطر مثل الأسهم والعملات المرتبطة بالسلع مثل الدولار الأوسترالي والنيوزيلندي وفضّلوا الأصول الأكثر استقرارًا. هذا التحوّل يعكس المخاوف من أن يكون خفض التصنيف بداية لموجة أوسع من عدم الاستقرار المالي في حال عدم معالجة جذور الأزمة.
النظرة المستقبلية وموقف الفيديرالي
رغم خفض التصنيف، أكدت موديز على النظرة المستقبلية المستقرة، مدعومة بقوة الاقتصاد الأميركي ومكانة الدولار كعملة احتياطية عالمية. إلا أن استمرار العجز وغياب الإصلاحات قد يعرض التصنيف لمزيد من الخفض في المستقبل. من ناحية أخرى، قد تدفع هذه التطورات الاحتياطي الفيديرالي الأميركي إلى إعادة تقييم سياسته النقدية، خصوصاً في ظل تأثير ارتفاع العوائد على النشاط الاقتصادي.
إن خفض وكالة موديز للتصنيف الائتماني للولايات المتحدة لا يمثل مجرد تغيير رمزي في تقييم الجدارة الائتمانية فحسب، بل يعكس تحولًا عميقًا في النظرة إلى الاستدامة المالية الأميركية وقدرتها على التعامل مع التحديات الهيكلية المتفاقمة. فرغم تمتع الاقتصاد الأميركي بحجم ضخم وقوة مؤسساتية، إلا أن استمرار العجز المالي وارتفاع الدين العام من دون أفق واضح للإصلاح يضعف الثقة الدولية ويزيد من حساسية الأسواق حيال أي صدمات سياسية أو اقتصادية.
الأكثر خطورة أن هذا الخفض يُسلّط الضوء على العجز السياسي في مواجهة الأزمة، إذ أصبح الجمود داخل الكونغرس والإدارة عائقًا حقيقيًا أمام اتخاذ قرارات مالية استراتيجية. وإذا استمرت هذه الديناميكية من دون تدخل حاسم، فقد لا يكون خفض التصنيف الحالي هو الأخير، ما يهدد بتقويض مكانة الدولار الأميركي كعملة احتياط عالمية، ويُعرض الأسواق العالمية لتقلبات غير مسبوقة.
في هذا السياق، يبدو أن المرحلة القادمة تتطلب إرادة سياسية جادة وإصلاحات مالية شاملة تعيد التوازن إلى الميزانية الفيديرالية وتستعيد الثقة الدولية بالدين الأميركي. فالعبرة ليست في ردّ الفعل اللحظي للأسواق، بل في ما إذا كانت هذه الخطوة ستدفع صناع القرار إلى التحرك قبل أن تتحول التحذيرات إلى أزمة حقيقية.
(*) كبير محلّلي الأسواق المالية في FxPro، محاضر جامعي في لبنان وفرنسا.
0 تعليق