نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
ما لم يُقَل عن كمال جنبلاط بعد - تكنو بلس, اليوم الاثنين 19 مايو 2025 08:17 صباحاً
باحث في الفكر الإنساني والاجتماعي، وكاتب مهتم بقضايا الفلسفة والتجديد الأخلاقي في العالم العربي
---
لا تزال شخصية كمال جنبلاط تُثير في الأذهان صوراً متشابكة: الفيلسوف، الزعيم، المناضل، الشاعر، السياسي، الصوفي، والمثقف الموسوعي. ومع ذلك، فإننا اليوم أمام مفارقة صارخة: كل هذا الزخم لم يُترجم إلى فهم مبسط وعميق لفكره عند عامة الناس، بل حتى عند خاصتهم. لقد اختار كثير من الباحثين والدارسين أن يكتبوا عنه بلغة مجازية أو رمزية معقدة، متجاهلين الحاجة إلى تقديمه بلغة يفهمها العالمون، في زمن تتسابق فيه الشعوب لتبسيط إرثها الفكري كي تجعل منه مصدر إلهام عملي للأجيال.
أبحاث تتحدث إليه لا عنه
يتعامل كثير من طلبة الماجستير والدكتوراه مع فكر كمال جنبلاط كما لو كان نصاً متعالياً عن الواقع، يحلّقون حوله في هوامش لغوية ونقدية، دون أن يُقرّبوه من الناس. هذه الأبحاث، رغم قيمتها الأكاديمية، تظلّ رهينة قاعات المحاضرات وأرفف المكتبات، وكأنها تحلم بلغة لا يتحدثها الناس. والنتيجة: جمهور واسع يسمع باسم كمال جنبلاط، لكنه لا يعرفه، لا يلمس أثر فكره في حياته اليومية، ولا يجد في مؤلفاته جسرًا يعبر به إلى وعي جديد.
الجانب العلمي المهمل: "ثورة في عالم الإنسان"
إن أكثر ما أُغفل في تراث كمال جنبلاط هو الجانب العلمي الدقيق، ولا سيما في كتابه الفريد ثورة في عالم الإنسان. ففي هذا العمل يتجاوز جنبلاط حدود الفلسفة والسياسة، ليطرح رؤية علاجية – حياتية شاملة. لقد نادى بعودة الإنسان إلى الطبيعة، لا بوصفها ملاذاً جسديًا فحسب، بل بوصفها طريقًا روحيًا وصحيًا للتوازن. ورأى أن الوقاية تبدأ من طهارة المأكل وصفاء الفكر. هذه الرسالة الصحية، رغم أهميتها، لا تزال غائبة عن كثير من متابعيه، في وقت يشهد فيه العالم عودة ملحّة إلى أنماط العيش النقية.
شاعرية تتجاوز التنظير: "فرح"
جنبلاط لم يكن مجرد منظّر، بل كان إنساناً يغني للحياة. ديوانه فرح يكشف عن وجهه الشعري الأقرب إلى وجدان الناس، حيث الكلمات تنسل من قلبه لا من قواميس الفلسفة. لم يكتب شعراً ليُعجب النخبة، بل ليُعبر عن نبض الإنسان العادي، عن الألم، الحب، التوق، والانتماء إلى الكون. في شعره، تتجلى بساطة العبارة وعمق المعنى، ويتجلى أيضًا حنينه إلى عالم أكثر نقاءً، وحكمة الذاهب إلى ما وراء المشهد لا ما يظهر منه.
نموذج في الزهد والبساطة
في سلوكه الشخصي، كان كمال جنبلاط نموذجًا لما دعا إليه في فكره: الزهد، القناعة، والتعفف عن بهرج المدينة الفاشلة، لا المدينة الهادفة التي آمن بها. كان بإمكانه أن يعيش في القصور، لكنه اختار بيتًا متواضعاً. لم يركض وراء الأضواء، بل آثر أن يكون منارة فكرية خافتة النور لكنها عميقة الأثر. لقد رفض "المدينة الفاشلة" التي تسكنها القوانين دون القيم، وبحث عن مدينة فاضلة يسكنها الإنسان قبل العمران.
"أدب الحياة": كتاب في التربية قبل أن يكون في الأخلاق:
في كتابه أدب الحياة، قدّم كمال جنبلاط رؤية أخلاقية متكاملة تتجاوز المواعظ النظرية إلى قواعد سلوك عملي تُشكّل منبعاً للتربية الروحية والفكرية في آن. يتناول الكتاب مفهوم التهذيب الداخلي كشرط للحرية، ويُرسّخ أن الأخلاق لا تأتي من الخارج، بل من تربية النفس على الانضباط، الحب، والتأمل. هذا العمل، الذي قلّما يُستَحضَر في سياق الحديث عن التربية، هو في جوهره كتابُ معلمٍ حكيم، لا فيلسوفٍ نخبوي.
كوزير للتربية: التعليم بوصفه تحرّراً لا تلقيناً
لم يكن عبور كمال جنبلاط في وزارة التربية الوطنية عبوراً عابراً، بل محطة أساسية في صياغة رؤيته للإصلاح التربوي. لقد دعا إلى تعليم يُنمي الفضيلة لا الحفظ، ويُحرر العقل لا يُقيّده. آمن بأن المدرسة يجب أن تكون بيئة حية للتأمل والسؤال، لا مجرد مؤسسة لإنتاج الشهادات. وكان يرى أن التربية الحقيقية لا تقوم على التلقين، بل على إشعال شرارة الوعي الأخلاقي والمعرفي في قلب كل طالب. من هنا، تأتي أهميته اليوم كمُلهم لمشروع تربوي عربي جديد، يعيد للعلم رسالته وللمعلم مكانته.
من فكره… حلول إنسانية للعالم
ما كتبه كمال جنبلاط لم يكن محليًا ولا ظرفياً، بل كان يصلح ليكون مصدر إلهام عالمي. في دعوته إلى احترام الطبيعة، نسمع اليوم صدى الفكر البيئي الحديث. في تأكيده على وحدة الأديان وأخلاقيات الإنسان، نجد أساساً لحوار الحضارات لا صدامها. في رؤيته للتعليم كوسيلة للترقي الأخلاقي لا الحشو المعلوماتي، تكمن بذرة إصلاح تربوي شامل. كما أن فهمه للعدالة الاجتماعية لا يقوم على الصراع الطبقي فقط، بل على التوازن بين الروح والمادة، بين الحقوق والواجبات، ما يجعل من فكره مرجعًا إنسانياً لبناء مجتمع متماسك، عادل، ومستنير.
خاتمة: إعادة اكتشاف الإنسان في فكر كمال جنبلاط
ما نحتاج إليه اليوم ليس المزيد من التقديس أو التوثيق، بل إعادة قراءة كمال جنبلاط كإنسان، كصوت ضمير وعقل، لا كمجرد زعيم أو فيلسوف. علينا أن ننقله من كتب النخبة إلى ضمائر الناس، من المجاز إلى الفعل، من الرمز إلى الإنسان. ففكره لا يزال ينبض بالحياة، ينتظر من يُعيد إليه بريقه، لا عبر التكرار، بل عبر الاقتداء. إنه مشروع أخلاقي، ثقافي، علمي، وإنساني… لم يُقل فيه كل ما يجب بعد.
0 تعليق