نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
خمس مراحل أسست للطائف... ووارث الحسيني حارسه - تكنو بلس, اليوم الاثنين 12 مايو 2025 03:48 مساءً
عماد جودية
لا يعرف اللبنانيون أن وثيقة الوفاق الوطني التي بدأ النواب مداولاتهم للتوصل إليها في مدينة الطائف السعودية في تاريخ 30/9/1989، بعد 11 جولة من المناقشات برئاسة رجل الدولة الاستثنائي الرئيس الراحل حسين الحسيني، رئيس مجلس النواب يومذاك، كانت قد مرت بخمس مراحل أساسية مهدت للوصول إليها برعاية المملكة العربية السعودية.
هذه المراحل هي:
أولا - ورقة "ثوابت الموقف الإسلامي" التي صدرت ببنودها التسعة عن دار الفتوى في 23 أيلول/سبتمبر 1983 موقعة من مفتي الجمهورية يومها الشيخ حسن خالد، ونائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ محمد مهدي شمس الدين ورئيس المحاكم المذهبية الدرزية الشيخ حليم تقي الدين والرؤساء عادل عسيران وصائب سلام وسليم الحص وحسين الحسيني والوزير سامي يونس، والتي دعت في بندها الثاني إلى المساواة والعدالة وتكافؤ الفرص بين اللبنانيين من دون تمييز، وطالبت في بندها السابع بإلغاء "الطائفية السياسية" بكل وجوهها في جميع مرافق الدولة ومؤسساتها.
ثانيا: بعد انتفاضة السادس من شباط/فبراير بقيادة الحزب التقدمي الاشتراكي وحركة "أمل" في بيروت الغربية ومنطقة الشحار الغربي في قضاء عالية ضد اتفاق 17 أيار/مايو، استقال رئيس الحكومة آنذاك شفيق الوزان وكلّف رئيس الجمهورية أمين الجميل الرئيس رشيد كرامي تشكيل الحكومة التي أبصرت النور في 30/4/1984. في صباح اليوم التالي لتكليفه زرته بناء على طلبه حيث كان يقطن موقتا في منزل الوزير الراحل مصطفى درنيقة في منطقة عين التينة، في انتظار أن يجهز منزله قرب "تلفزيون لبنان" في منطقة تلة الخياط، وكان حاضرا يومها النواب حسين الحسيني وألبر منصور وجميل كبي والدكتور نسيب البربير والدكتور أسامة فاخوري والدكتور محمد مجذوب، وفاجأني أمامهم بإبداء رغبته لي في أن أكون إلى جانبه في الحكومة وزيرا للإعلام، فسارعت إلى الاعتذار فورا، وشكرته على ثقته الكبيرة بشخصي ومحبته لي. سألني لماذا؟ أجبته: لا أقبل أن أشارك في حكومة تابعة لدولة أعتبر "نظامها عنصريا" يميز بين لبناني وآخر على طريقة ابن الست وابن الجارية.
رد قائلا: هذا كلام كبير جدا. ماذا تقصد؟
أجبته: كيف يمكن هذا النظام أن يسمح للماروني والشيعي والسني بأن يكون سقفهم الرئاسات ومراكز الفئة الأولى ويمنعها عن الأرثوذكسي والدرزي والكاثوليكي والأرمني وأبناء الأقليات الصغيرة وكأنهم لبنانيون درجة أولى فيما الآخرون لبنانيون درجة ثانية؟ علما أن كمال جنبلاط دفع حياته ثمنا لمطالبته بقيام نظام مدني يتساوى فيه كل اللبنانيين أمام القانون بالحقوق والواجبات. ولهذا فإن توزيري لا يقدم ولا يؤخر ما دمت عاجزا عن إجراء إصلاحات جذرية في بنية النظام، وأكثر ما يمكن أن أحصل عليه هو لقب "معالي الوزير"، فيما أنا شخصيا أطمح إلى لقب "الفخامة" و"الدولة" ولا يحق لي الوصول إليهما نتيجة عرف تافه غير موجود سموه زورا "الميثاق الوطني"، لا علاقة له بالميثاقية ولا بالوطنية، بل هو "ميثاق تقاسم مغانم السلطة" بين الطوائف الثلاث في احتكارها الرئاسات ومراكز الفئة الأولى.
نزل كلامي كالصاعقة على مسامع الحاضرين، وأول من بادر إلى التعليق كان الحسيني، الذي قال للحضور: "للمرة الأولى منذ الاستقلال حتى اليوم أسمع بمثل هذا التوصيف الدقيق والجريء للنظام اللبناني".
والتفت نحو الرئيس كرامي وقال له: "اسمح لي يا دولة الرئيس أن أشكر باسمك وباسم الحاضرين الأخ والصديق الأستاذ عماد لتعففه عن الوزارة أولا، وهذا دليل على كبر نفسه. وثانيا، لانه لفتنا إلى عورة أساسية وسلبية في بنية نظامنا لم نكن نحن النواب والسياسيين متنبهين لها، وهي فعلا في حاجة إلى معالجة بالعمق من كل المسؤولين والمعنيبن من أجل مستقبل أجيالنا التي تتطلع إلى العيش في "نظام مدني" لا طائفي يحفظ كرامة وجودهم في المواطنة الصحيحة".
أجابه الرئيس كرامي: "فعلا فوجئنا بكلام عزيزنا عماد الذي نحييه عليه وكان بمثابة الجرس الذي أيقظ فينا روح العمل الصادق لإحداث إصلاحات دستورية جذرية في بنية النظام اللبناني.
ثالثا: بعد ستة أشهر على هذه الواقعة، انتخب الصديق الغالي النائب الحسيني رئيسا لمجلس النواب (16/10/1984) وكنت أراقب عملية انتخابه من غرفة مجاورة لقاعة المجلس في قصر منصور حيث وصلت إلى الجلسة برفقة الرئيسين رشيد كرامي وسليم الحص لكوني مستشارا سياسيا لهما، وكان الثاني وزيرا للاقتصاد والإعلام والتربية في حكومة الأول. بعد انتهائه من تلقيه التهاني بانتخابه، طلب مني الرئيس الحسيني أن ألتقيه مساء في منزله في عين التينة. وبالفعل، التقيته وقال لي: "ابتداء من الآن أصبحت مساعدي الخاص للملفات الأساسية والمهمات الصعبة، وأرغب في أن تتسلم ملف العلاقة بيني وبين رئيس الحكومة (كرامي) والرئيس الحص والمفتي (حسن) خالد وحاكم مصرف لبنان (الدكتور إدمون نعيم) الذي كان اختيارك أنت للحاكمية. وأول عمل سنقوم به معا هو السعي معهم لتصحيح الخلل في بنية النظام الذي لفتّ أنت نظرنا إليه بموقفك الجريء والنبيل عندما رفضت التوزير ووصفته بأنه عنصري".
بعد ثلاثة أشهر على انتخابه فاجأني الرئيس الحسيني بقوله لي إنه علم من وزير المالية آنذاك الرئيس كميل شمعون أنه لا يزال على خصومة سياسية مع رئيس حكومته كرامي منذ ثورة عام 1958 ، والتواصل بينهما مقطوع، وخلال اجتماعات مجلس الوزراء يتم التفاهم بينهما عبر رئيس الجمهورية (الجميل). وطلب مني السعي معه لمصالحتهما سريعا من أجل البلد وأهله ونظرا إلى علاقتي الشخصية المؤثرة بكليهما. ولم تمضِ أيام على تكليفي هذا المسعى حتى كان كل من كرامي وشمعون يعقدان لقاء المصالحة، وينهيان الخصومة السياسية والمقاطعة برعاية الرئيس الحسيني في مكتبه في المقر المؤقت لمجلس النواب في قصر منصور، وفي حضوري. شكرهما على تجاوبهما مع مسعانا للمصالحة، وتمنى عليهما البدء بعقد اجتماعات بينهما في مكتبه، تكون بعيدة من الإعلام للتوصل إلى صيغة إنقاذ وطني تنهي الحرب الأهلية، فوافقا من دون تردد وتمنيا رعايتي لقاءاتهما تلك والمشاركة معهما في نقاشاتها، فأبديت ترحيبي بذلك وشكرتهما على ثقتهما بي.
عقد كرامي وشمعون من مطلع 1985 حتى استشهاد الأول في 1/6/1987 سبع جلسات حوار في مكتب الحسيني في قصر منصور، وحضرتها كلها وشاركت في مناقشاتها التي بقيت بعيدة عن الإعلام. والأهم في ما دار بينهما أن الرئيس شمعون اقترح في ورقته الإصلاحية التي تقدم بها استحداث منصب نائب رئيس للجمهورية إلى جانب منصبي نائبي رئيسي مجلس النواب والحكومة وتوزيعها بين الدروز والأرثوذكس والكاثوليك. ثم تتطور النقاش بينهما ليتوصلا في الجلسة السابعة إلى الموافقة على إقرار المداورة في الرئاسات وإلغاء طائفية مراكز الفئة الأولى. واتفقا على أن يعقدا لاحقا مؤتمرا صحافيا في مجلس النواب في حضور الرئيس الحسيني يعلن فيه الأخير توصلهما إلى التفاهم على ورقة الإنقاذ الوطني، ويدعو إلى عقد طاولة حوار وطني في مجلس النواب يحضرها كل الأفرقاء من قادة سياسيبن وروحيين، بمن فيهم قادة ميليشيا شطري العاصمة لمناقشة ورقة كرامي وشمعون والتفاهم لإقرارها وإنهاء الحرب الأهلية على أساسها.
لكن يد الغدر خطفت كرامي الذي أعتقد أنه قتل بقرار سوري - إسرائيلي لقبوله بإجراء إصلاحات جذرية في بنية النظام، لأن الدولتين لا تستطيعان أن تتحملا إقرار قادته أي أصلاحات حقيقية في بنية نظامه الطائفي كي لا تنقل هذه الإصلاحات اللبنانيين إلى التطور والتقدم والحداثة، مما يشكل خطرا حقيقيا على وجود إسرائيل في لمنطقة وعلى استمرارية نظام الأسد يومذاك، لأن السوريين كما اللبنانيين هم أيضا تواقون إلى العيش في كنف نظام مدني ديموقراطي لا طائفي.
رابعا: بعد استشهاد كرامي طلب الحسيني من القاضي المحترم خالد قباني عقد اجتماعات بينهما لإكمال العمل في ورشة وثيقة التفاهم الوطني على ضوء الأسس التي ذكرناها، من أجل بلورتها لاحقا في مشروع إنقاذي وطني جامع ينهي الحرب الأهلية. وكان يشارك هو والرئيس الحص في اجتماعاتهما في فندق كورال بيتش. وللأمانة، بذلا جهدا كبيرا وكان لهما الدور الأساسي الذي بنيت عليه لاحقا وثيقة الوفاق الوطني التي أقرت في السعودية وصارت تعرف في ما بعد باتفاق الطائف.
خامسا: قبل ثلاثة أيام من انتهاء النواب من مداولاتهم في الطائف اتصل الرئيس الحسيني بالرئيس الحص ليبلغه أن مسودة النسخة الأخيرة أصبحت في خواتيمها، وتمنى عليه أن يرسلني مبعوثا منهما لزيارة البطريرك صفير في الديمان بعيدا عن الإعلام، وسؤاله وجها لوجه عما إذا كان لديه أي ملاحظات على وثيقة التفاهم الوطني قبل ختم مداولات النواب، قد يكون لا يرغب في البوح بها علنا أو أرسالها خطيا تجنبا للإحراج.
الرئيس الحسيني وعماد جودية
اتصل الحص بصفير وأبلغه بتوجهي إليه مبعوثا منه ومن الحسيني لأمر أبلغه أياه عندما ألتقيه. وصلت إلى الديمان الخامسة عصرا واستقبلني البطريرك صفير بحفاوة ونقلت إليه الرسالة الشفوية من الرئيسين الحسيني والحص. أجابني بالإنكليزية وهو يبتسم: No News Good News وتابع :
"لو كان لدي ملاحظات لأرسلتها. كل ما يهمني الآن هو الأسراع في إعلان الاتفاق من أجل إنهاء مأساة المسيحيين ووقف نزف هجرتهم وتشريدهم وقتلهم نتيجة الصراع العسكري المجنون الدائر بين عون وجعجع".
قبل مغادرتي الديمان ليلا أصر على تناولي العشاء معه، وصلّينا داخل كنيسة الصرح على نية لبنان وحماية أهله. وعدت إلى بيروت التي وصلتها الثالثة فجرا لأن ذهابي وإيابي إلى الديمان كان عبر طريق البقاع.
وفي الصباح الباكر توجهت إلى منزل الرئيس الحص في عائشة بكار ناقلا ما سمعته من البطريرك صفير، فاتصل بالرئيس الحسيني وأبلغه جوابه، فردّ: "لنتكل على الله ونعلن الاتفاق غدا".
وعندما أصدر البطريرك صفير كتاب مذكراته عام 2007 استغربنا أنا والحسيني والحص وكيف لم يذكر هذه الواقعة المهمة، وكنت أنوي كتابة مقال أنتقده فيه بشدة لكن الرئيسين تمنيا عدم كتابته كي لا أحرجه، فلربما تعمد عدم ذكر تلك الواقعة بعدما تعالت لاحقا أصوات من قوى سياسية مارونية تحمله مسؤولية موافقته على نزع صلاحيات رئيس الجمهورية وإعطائها إلى مجلس الوزراء مجتمعا.
لكنه ارتكب في كتاب مذكراته خطأ آخر أيضا، عندما أرجعني إلى جذوري التوحيدية الدرزية التي أعتز بها، نازعا عني مسيحيتي الأرثوذكسية. وعندما التقيته في بكركي أثناء تلبيتي والرئيس الحص دعوة البطريرك الراعي للغداء خلال زيارتنا له للتهنئة بانتخابه، قال لي وهو يبتسم: "رجعناك درزي بكتابنا بس إنت ابن الكنيسة الانطاكية، منعتذر منك". قلت له: "إذا كانت القصة هيك سيدنا صرت بدك ترجع ثلث العائلات المارونية والمسيحية إلى جذورها التوحيدية ، فالدروز هم بناة لبنان الأوائل ولا أحد يستطيع تزوير التاريخ ونكران ذلك. هل نسيت يا سيدنا أنك أرسلت المطران رولان أبو جودة لتقديم واجب العزاء لي باسمك بوفاة والدتي في كنيسة السيدة في راس بيروت عام ٢٠٠٣؟ إن مدفني الخاص وعائلتي هناك. وهل نسيت أنني كنت أصلي معك في كنيسة الصرح كلما زرتك في بكركي أو في الديمان؟ يبدو أنك لا تريد أن تبين وجود شاب مسيحي ناجح غير ماروني، لأنك تعتقد أن النجاحات حكر على الموارنة فقط". وضحكنا معا وانتهت القصة هنا.
جئت بكل هذا المعطيات التي أكشفها للحقيقة والتاريخ، لأقول إن اللبنانيبن مدينون للرئيسين الحسيني والحص وللبطريرك صفير أيضا بإنهاء الحرب، إذ عمل القادة الثلاثة معا بإخلاص وتفان ووطنية لإنقاذ اللبنانيين. ولولا جرأة الرئيس الحسيني وشخصيته القوية ودماثة خلقه ونزاهة كفه وتعاون وزير الخارجية السعودي معه الأمير سعود الفيصل إلى أبعد الحدود، وإلى جانبهما مبعوث الجامعة العربية الأخضر الإبراهيمي، لما كان لاتفاق الطائف أن يسلك طريقه إلى النور.
ورغم تآمر سوريا على الرئيس الحسيني بإخراجه من الحكم (20/10/1992) لكي تخلو لها الساحة من أجل تحكمها في قرارات الدولة اللبنانية وسلطاتها ومؤسساتها وإداراتها المدنية والعسكرية والأمنية والقضائية، ظل قامة سياسية كبيرة وعلامة فارقة في الحياة العامة، وبقي أمينا على مبادئه الوطنية، مناضلا مع الرئيس الحص في مواجهة الفساد السياسي والمالي داخل الدولة وأجهزتها وإداراتها، وساعيا معه لإكمال تنفيذ بنود الطائف، ليكون ذلك مقدمة للذهاب بلبنان مستقبلا نحو إقرار "نظام مدني" كان هو السباق في طرحه وبلورة مشروعه، ينقل اللبنانيين من "نظام المذاهب" إلى "نظام المواطنة". فترك بصمة وطنية كبيرة لن ينساها اللبنانيون. ولهذا فإن تياره السياسي المعتدل الذي أثبت صوابيته في حماية كل اللبنانيبن تحت سقف الشرعية وكنف الدولة، كان معه، وسيبقى مع وارثه السياسي حسن الحسيني الذي يتمتع بقيادة أصيلة واعدة، نبض الطائف ولبنان.
0 تعليق